زياد أبو رجائي
أثر الاعراب في توجيه المعنى
عندما نقول الاعراب فإننا -بلا شك- نعني تلك الحركات التي تقبع على آخر حرف في الكلمة متأثرة بالعامل التي أثر عليها نصبا او جزما او رفعا وهو ما يسمى بالاعراب الظاهر بالحركات اضافة الى الاعراب بالحروف بخلاف الاعراب التقديري الذي يقدر حركته لعلة الحروف المقصورة.
واكبر أثر للاعراب هو ذلك الناتج الذي يظهر تعسفا وتكلفا في التاويل والذي تحدثنا عنه في سياق عدة مواضيع(*)
إلا ان هناك مساحة للتوافق بين احتمالية لأكثر من اعراب تسمح به لغة العرب وقواعد النحاة، وهذا النوع يقتضي منا جميعا الانتباه الى ان التنازع في تفسير اية من ايات القرآن والتي تحتمل الاوجه الصحيحة في الاعراب بان نرد هذا التنازع إلى: اولا تفسير القرآن بالقرآن؛ فلعل هناك اية اخرى تفسرها او قراءة قرآنية اخرى توصحها، حتى يصل بنا الامر الى النظر في شرحها من السنة النبوية. وان لم نجد فيها، فأثر للصحابة والتابعين في القرون الخيرة ما يشفي به الصدور ويحل الاشكال فيها.
ومن بعض أثار الاعراب في هذه النماذج، نجد كيف أن توجيه الاعراب ينتج عنه تفسيران متعارضان:
الأنموذج الاول:
قال تعالى:
{ اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ} (الرعد:2)
الجو العام للآية:
الجو العام للآية:
لما ذكر انتفاء الإيمان عن أكثر الناس في الآية السابقة ، عقبه ما يدل على الربوبية من تدبير هذا الكون بالعظمة والقدرة. كل هذه الآيات استدلالٌ على عظيم قدرته وعمومها ليدخُلَ في ذلك ما شك فيه المشركون من قدرته على الإعادة.
والغرض البلاغي من الاتيان بالموصول (الذي)
- للتعليل بأن يكونَ التعبيرُ عن المخبَرِ عنهُ بالموصولِ بِصلَتِه مُشْعِرًا بعِلة ثبوت الخبَرِ للمُخْبَرِ عنه وهو الله.
- لتفخيم شأنِ المحكومِ به وتعظيمِه والشاهد ذكر رفع السماء بغير عمد، سخر الشمس والقمر وتدبير امر الكون، ولا شك ان هذه الاشارات والدلائل موقوفة على القدرة أي:لا يستطيع ولا يقوم بها الا عظيم وقادر-سبحانه وتعالى-{ وَيُمْسِكُ السمآء أَن تَقَعَ عَلَى الأرض إِلاَّ بِإِذْنِهِ } [ الحج : 65 ] .
قوله تعالى : { الله الذي رَفَعَ السماوات بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا } .
الاعراب:
- ( الله ) : مبتدأ
- ( الذي رَفَعَ السماوات بغير عمد ) :
- الخبر (1)
- يجوز أن يكون الموصول صفة. وعليه تكون جملة يدبر الامر هي الخبر
-
وجه الاشكال:
اختلف العلماء في قوله تعالى : { تَرَوْنَهَا } على قولين:
- جملة : ( ترونها ) :
- إما ان تكون حال : (موضع نصب على الحال) وهي بمثابة (مرئية) فعندها يكون الضمير المتصل (ها) عائد للسماوات.(2) ترون رفعها، ويتحقق بذلك معنى: لا شبهة في كونها بغير عمد؛ أي رفعها مرئية لكم بغير عمد كما ترون ذلك بأعينكم بجلاء ووضوح.(3) بمعنى تأكيد نفي ذلك.
- إذن: وللتبسيط : كان حالها يوم رفعها "خالية من اي عمد".
- إما ان تكون صفة : (في موضع جر) لعَمد فالضمير يعود في هذه الحالة الى العمد واختيار اعرابها صفة يكون تحقيق المعنى : ليس لها عَمد مرئية ، فيقتضي بالمفهوم أن لها عمداً لا تُرى .
-
فجملة بغير عمد ترونها هي المفصل الحقيقي الذي يوجهنا الى صحة التاويل ولتقرير هل السماء مرفوعة بعمد ام بغير عمد؟ فهل النفي واقع على الرؤية ام واقع على وجود العمد.
والاختيار بالصفة هو جار مجرى القياس بالقواعد المتفق عليها بين النحاة، اذ ان اسناد الضمير المتصل في "ترونها" الى أقرب مذكور-عمد- أولى من الحاقها الى مذكور ابعد في السياق لتكون حالا للسموات، وعليه فإن اعمال القاعدة اولى من اهمالها كما يعرفه الأصوليون.
إلا ان قول الجمهور : أنه لا عمد لها البتة . فالمراد نفي العمد ، ونفي رؤيتها . ممن اختار هذا الترجيح؛ منهم :ابن جزي والطبري وابن كثير والواحدي والشنقيطي
وذلك بتفسيرها من آية اخرى صريحت بذلك- وردت في سورة الحج- :
وَيُمْسِكُ السمآء أَن تَقَعَ عَلَى الأرض إِلاَّ بِإِذْنِهِ }(الحج : 65)
وَيُمْسِكُ السمآء أَن تَقَعَ عَلَى الأرض إِلاَّ بِإِذْنِهِ }(الحج : 65)
وقال الامام الشنقيطي في كتابه ( دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب ) ان هذا من اساليب اللغة العربية أن يكون المحكوم عليه غير موجود فيعلم منه انتفاء الحكم عليه بذلك الأمر الموجودي، ومثاله في اللغة قول امرىء القيس :
على لا حب لا يهتدى بمناره ... إذا سافه العود النباطي جرجرا
أي لا منار له اصلاً حتى يهتدي له
وعلى هذا فقوله { بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا } أي لا عمد لها حتى تروها (5)
على لا حب لا يهتدى بمناره ... إذا سافه العود النباطي جرجرا
أي لا منار له اصلاً حتى يهتدي له
وعلى هذا فقوله { بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا } أي لا عمد لها حتى تروها (5)
واختاره ثلة من العلماء الأجلاء منهم:
البغوي فقال: معناه نفي العمد أصلا وهو الأصح، يعني: ليس من دونها دعامة تدعمها ولا فوقها علاقة تمسكها(6) والإمام الطبري(7)
الأنموذج الثاني:
فإنْ تَرْفقي يا هند فالرفق أيمن وإن تخرُقي يا هند فالخُرق أشأم
فأنتِ طلاقٌ والطلاقُ عزيمةٌ ثلاث، ومَن يخرُقْ أعقُّ وأظلمُ
فأنتِ طلاقٌ والطلاقُ عزيمةٌ ثلاث، ومَن يخرُقْ أعقُّ وأظلمُ
جاز لكلمة "ثلاث" الرفع والنصب وعليه وجه الاشكال، سيبنى الرأي في هذه المسألة الفقهية ارتكازا على وجهة الاعراب:
ماذا يلزمه إذا رفع الثلاث وإذا نصبها؟ وماذا يقتضيه معنى اللفظ قال الكسائي:
- إن رفعَ "ثلاثُ" طلقت واحدة، لأنه قال أنت طلاق ثم أخبر أن الطلاق التام ثلاث
- إن نصب "ثلاثَ" طلقت ثلاثاً، لأن معناه أنت طالق ثلاثاً، وما بينهما جملة معترضة
التوضيح:
و يكمن وجه الاشكال على لفظ الطلاق المحلى بال التعريف التي يشار بها الى حقيقة الطلاق فتكون على اعتبار "ال للجنس"، واذا كانت كذلك - للجنس- : يتحقق معنى : (هذا الطلاق المذكور عزيمة ثلاث) وتكون بذلك في حيز الخبر المرفوع والمبتدا الطلاق وعليه يقع الطلاق واحدة.
وأما النصب: فلأنه مفعول مطلق :حينئذ يقتضي وقوع الطلاق الثلاث، إذ المعنى فأنت طالق ثلاثاً، ثم اعترض بينهما بقوله: والطلاق عزيمة.
الأنموذج الثالث:
ورد في كتاب بدائع الفوائد(1/32)
يقولون: "لا تأكل السمكة وتشرب اللبن"، يجوز في كلمة "تشرب" ثلاثة أوجه:
- وتشربُ اللبن (بالضم)
- وتشربَ اللبن ( بالفتح)
- وتشربْ اللبن ( بالسكون) وباعتبار التقاء ساكنين فانها تقلب الى كسرة
يجوز فيها الأوجه الثلاثة، ويتغير المعنى بتغير الحركات.
- الصورة الأولى: إن قلت "لا تأكلِ السمك وتشربُ اللبن"، فأنت حينئذٍ نهيته عن أكل السمك وأجزت له شرب اللبن.
- الصورة الثانية: لا تأكلِ السمك وتشربِ اللبن"، باعتبار أنك حركتها هنا لالتقاء الساكنين، وأصلها "تشربْ" بالسكون، معنى هذا أنك حرّمت عليه أكل السمك وشرب اللبن.
- الصورة الثالثة: لا تأكل السمك وتشربَ اللبن" فالواو للمعية، يعني يجوز لك أن تأكل السمك وحده أو تشرب اللبن وحده، لكن الممنوع هو الجمع بينهما.
والخلاصة:
في الصورة الاولى: (في الرفع) منعه من أكل السمك وأجاز له شرب اللبن : لأنها تكون واو استئنافية ويكون تقدير الكلام "ولك شرب اللبن".
في الصورة الثانية: (في النصب)أجاز له أكل السمك وحده أو شرب اللبن وحده، والذي منعه هو أن يجمع بينهما، وذلك إذا جعلت الواو للمعية .
في الصورة الثالثة: ( في الجزم) منعه من الاثنين فقال له "لا تأكلِ السمك وتشربِ اللبن"، فالواو للعطف؛ " تشرب " على " تأكل " ، وبالنصب
(*) انظر: سلسلة مقالات « حروف وأساليب بلاغية ضلت بها الفرق» :
- تقارب لام التعليل من لام العاقبة وفرقة الكرامية
- قراءة بلاغية في حديث العرباض وفرقة الرافضة.
- والله خلقكم وما تعملون وفرقة القدرية
(1) اختيار ابن عاشور
(2) اختيار ابن عاشور
(3) قاله ابن كثير( تفسير ابن كثير: 2 / 500): فعلى هذا يكون قوله : { تَرَوْنَهَا } تأكيداً لنفي ذلك ، اي هي مرفوعة بغير عمد كما ترونها كذلك ، وهذا هو الأكمل في القدرة اه . اختيار الواحدي (المحرر الوجيز: 8 / 110)واختاره الثعالبي (الجواهر الحسان في تفسير القرآن2/280)واختاره السيوطي(الجلالين4/200)
(4) زهرة التفاسير 7/3891
(5) أضواء البيان: 3 / 77-78
(6) في (معالم التنزيل) 4/288
(7) تفسير الطبري: 16 / 325