الإشكال الذي يظهر دائما ، ويكاد يكون سمة عند النحويين ، عندما لا يجدون في كلام العرب ما يثبت صحة ما يخالفها في القرآن ويخالف قواعدهم التي نحتوها ولو أنهم وجدوا بيتاً مشتملاً على هذا الاستعمال لقالوا إنه جائز صحيح وكلام الله أقوى وأجل وأشرف ، فلم لم يتمسكوا بوروده في هذه الآية على جوازه وصحته .قوله تعالى : { رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ (الدخان:2) }
من خصائص رب عند الأكثرين أنها لا تدخل على مستقبل لذلك قد تأولوا يود في معنى ودّ ، لما كان المستقبل في إخبار الله لتحقق وقوعه كالماضي ، فكأنه قيل : ود ، وليس ذلك بلازم ، بل قد تدخل على المستقبل لكنه قليل بالنسبة إلى دخولها على الماضي . ومما وردت فيه للمستقبل قول هند أم معاوية :
يا رب قائلة غداً ... يا لهف أم معاوية
وقول أبي عبد الله الرازي : أنهم اتفقوا على أنّ كلمة رب مختصة بالدخول على الماضي لا يصح ، فعلى هذا لا يكون يودّ محتاجاً إلى تأويل . وأما من تأول ذلك على إضمار كان أي : ربما كان يودّ فقوله ضعيف ، وليس هذا من مواضع إضمار كان . ولما كان عند الزمخشري وغيره أنّ رب للتقليل احتاجوا إلى تأويل مجيء رب هنا ، وطول الزمخشري في تأويل ذلك . ومن قال : إنها للتكثير ، فالتكثير فيها هنا ظاهر ، لأنّ ودادتهم ذلك كثيرة ، فالتقليل والتكثير إنما يفهم من سياق الكلام .
« رب » لا تدخل على الفعل، فإذا لحقتها « ما » هيأتها للدخول على الفعل تقول: ربما قام زيد، وربما يقوم زيد.
ويجوز أن تكون " ما " نكرة بمعنى شئ، و « يود » صفة له، أي رب شئ يود الكافر.
وقال ابن هشام في المغنى: « وفى رب ست عشرة لغة: ضم الراء وفتحها، وكلاهما مع التشديد والتخفيف.والاوجه الاربعة مع تاء التأنيث، ساكنة أو محركة، مع التجريد منها، فهذه اثنتا عشرة.
والضم والفتح مع إسكان الياء وضم الحرفين مع التشديد ومع التخفيف ».
ورُبَّ للتقليل وكم للتكثير، ورُبَّ تدخل على الاسم، ورُبَما على الفعل، يقال: رُبَّ رجل جاءني، ورُبَمَا جاءني رجل، وأدخل ما هاهنا للفعل بعدها.
{ وَرَبُّ } على كثرة وقوعها في كلام العرب لم تقع في القرآن إلا في هذه الآية .
وزعم ابن فضالة في الهوامل والعوامل أنها ثنائية الوضع( بمعنى انها تستعمل عل الكثرة وعلى القلة ) مثل: « قد » ( تحمل معنى التحقيق والتشكيك في آن واحد ) وأن فتح الباء مخففة دون التاء ضرورة وأن فتح الراء مطلقاً شاذ ، وهي حرف جر خلافاً للكوفية والأخفش في أحد قوليه . وابن الطراوة زعموا أنها اسم مبني ككم واستدلوا على اسميتها بالأخبار عنها في قوله :
إن يقتلوك فإن قتلك لم يكن ......... عاراً عليك ورب قتل عار
فرب عندهم
1- مبتدا وعار خبره ،
2- مصدراً كرب ضربة ضربت ،
3-ظرفاً كرب يوم سرت ،
4- مفعولاً به كرب رجل ضربت
واختار الرضى أسميتها إلا أن إعرابها عنده رفع أبداً على أنها مبتدأ لا خبر له كما اختار ذلك في قولهم : أقل رجل يقول ذلك إلا زيداً ، وقال : إنها إن كفت بما فلا محل لها حينئذ لكونها كحرف النفي الداخل على الجملة ومنع ذلك البصريون بأنها لو كانت اسماً لجاز أن يتعدى إليها الفعل بحرف الجر فيقال برب رجل عالم مررت ، وأن يعود عليها الضمير ويضاف إليها وجميع علامات الاسم منتفية عنها ، وأجيب عن البيت بأن المعروف وبعض بدل رب ، وإن صحت تلك الرواية فعار خبر مبتدأ محذوف أي هو عار كما صرح به في قوله :
يا رب هيجا هي خير من دعه ...
والجملة صفة المجرور أو خبره إذ هو في موضع مبتدأ ، ويردّ قياسها على كم كما قال أبو علي : إنهم لم يفصلوا بينها وبين المجرور كما فصلوا بين كم .
,اختلفت القراء(1) في قراءة قوله(رُبَمَا) فقرأت ذلك عامة قرّاء أهل المدينة وبعض الكوفيين(رُبَمَا) بتخفيف الباء، وقرأته عامة قرّاء الكوفة والبصرة بتشديدها.
والصواب من القول في ذلك أن يقال: إنهما قراءتان مشهورتان .
قال أبو حاتم: أهل الحجاز يخففون ربما، قال الشاعر: ربما ضربة بسيف صقيل * بين بصرى وطعنة نجلاء وتميم وقيس وربيعة وبكر يثقلونها.
واختلف أهل العربية في معنى "ما" التي مع "ربّ"، فقال بعض نحويي البصرة: أدخل مع ربّ "ما" ليتكلم بالفعل بعدها، وإن شئت جعلت "ما" بمنزلة شيء، فكأنك قلت: ربّ شيء، يود: أي ربّ ودّ يودّه الذين كفروا. وقد أنكر ذلك من قوله بعض نحويِّي الكوفة، وقال: المصدر لا يحتاج إلى عائد، والودّ قد وقع على "لو"، ربما يودون لو كانوا: أن يكونوا ، قال: وإذا أضمر الهاء في "لو" فليس بمفعول، وهو موضع المفعول، ولا ينبغي أن يترجم المصدر بشيء، وقد ترجمه بشيء، ثم جعله ودّا، ثم أعاد عليه عائدا. فكان الكسائي والفرّاء يقولان: لا تكاد العرب توقع "ربّ" على مستقبل، وإنما يوقعونها على الماضي من الفعل كقولهم: ربما فعلت كذا، وربما جاءني أخوك ، قالا وجاء في القرآن مع المستقبل: ربما يودّ، وإنما جاز ذلك لأن ما كان في القرآن من وعد ووعيد وما فيه، فهو حقّ كأنه عيان، فجرى الكلام فيما لم يكن بعد مجراه فيما كان، كما قيل( وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُءُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ ) وقوله( وَلَوْ تَرَى إِذْ فَزِعُوا فَلا فَوْتَ ) كأنه ماض وهو منتظر لصدقه في المعنى، وأنه لا مكذّب له، وأن القائل لا يقول إذا نَهَى أو أمر فعصاه المأمور يقول: أما والله لربّ ندامة لك تذكر قولي فيها لعلمه بأنه سيندم، والله ووعده أصدق من قول المخلوقين. وقد يجوز أن يصحب ربما الدائم وإن كان في لفظ يفعل، يقال: ربما يموت الرجل فلا يوجد له كفن، وإن أُوليت الأسماء كان معها ضمير كان، كما قال أبو داود:
رُبَّمَا الجامِلُ المُؤَبَّل فِيهِمُ... وعناجِيجُ بَيْنَهُنَّ المِهَارُ (2)
فتأويل الكلام: ربما يودّ الذين كفروا بالله فجحدوا وحدانيته لو كانوا في دار الدنيا مسلمين.
وما تعمل فهي وفي مفادها أقوال . أحدها : أنها للتقليل دائماً وهو قول الأكثرين ، وعد في البسيط منهم الخليل . وسيبويه ، والأخفش . والمازني . والفارسي . والمبرد . والكسائي . والفراء . وهشام . وخلق آخرون . ثانيها : أنها للتكثير دائماً وعليه صاحب العين . وابن درستويه . وجماعة ، وروى عن الخليل . ثالثها : واختاره الجلال السيوطي وفاقاً للفارابي وطائفة أنها للتقليل غالباً والتكثير نادراً . رابعها : عكسه جزم به في التسهيل واختاره ابن هشام في «المغنى» . وخامسها : أنها لهما من غير غلبة لأحدهما نقله أبو حيان عن بعض المتأخرين . سادسها : أنها لم توضع لواحد منهما بل هي حرف إثبات لا يدل على تكثير ولا تقليل وإنما يفهم ذلك من خارج واختاره أبو حيان . سابعها : أنها للتكثير في المباهاة وللتقليل فيما عداه وهو قول لا علم . وابن السيد . ثامنها : أنها لمبهم العدد وهو قول ابن الباذش وابن طاهر وتصدر وجوباً غالباً ، ونحو قوله :
تيقنت أن رب امرىء خيل خائنا ... أمين وخوان يخال أمينا
ولا تجر غير نكرة وأجاز بعضهم جرها المعروف بأل احتجاجاً بقوله :
ربما الجامل المؤبل فيهم ... وعناجيج بينهن المهار
وأجاب الجمهور بأن الرواية بالرفع وإن صح الجر فأل زائدة ، وفي وجوب نعت مجرورها خلف فقال المبرد . وابن السراج . والفارسي . وأكثر المتأخرين وعزى للبصريين يجب لإجرائها مجرى حرف النفي حيث لا تقع إلا صدراً ولا يقدم عليها ما يعمل في الاسم بعدها ، وحكم حرف النفي أن يدخل على جملة فالأقيس في مجرورها أن يوصف بجملة لذلك ، وقد يوصف بما يجري مجراها من ظرف أو مجرور أو اسم فاعل أو مفعول وجزم به ابن هشام في «المغني» وارتضاه الرضى ، وقال الأخفش . والفراء . والزجاج . وابن طاهر . وابن خروف . وغيرهم لا يجب وتضمنها القلة أو الكثرة يقوم مقام الوصف واختاره ابن مالك وتبعه أبو حيان ونظر في الاستدلال المذكور بما لا يخفى ، وتجر مضافاً إلى ضمير مجرورها معطوفاً بالواو كرب رجل وأخيه ولا يقاس على ذلك عند سيبويه ، وما حكاه الأصمعي من مباشرة رب للمضاف إلى الضمير حيث قال لأعرابية ألفلان أب أو أخ؟ فقالت : رب أبيه رب أخيه تريد رب أب له رب أخ له تقديراً للانفصال لكون أب وأخ من الأسماء التي يجوز الوصف بها فلا يقاس عليه اتفاقاً ، وتجر ضميراً مفرداً مذكراً يفسره نكرة منصوبة مطابقة للمعنى الذي يقصده المتكلم غير مفصولة عنه؛ وسمع جره في قوله :
وربه عطب أنقذت من عطبه ... على نية من وهو شاذ ، وجوز الكوفية مطابقة الضمير للنكرة المفسرة تثنية وجمعاً وتأنيثاً كما في قوله :
ربها فتية دعوت إلى ما ... يورث الحمد دائماً فأجابوا
والأصح أن هذا الضمير معرفة جرى مجرى النكرة ، واختار ابن عصفور تبعاً لجماعة أنه نكرة وإن جرها إياه ليس قليلاً ولا شاذاً خلافاً لابن مالك ، وإنها زائدة في الإعراب لا المعنى ، وإن محل مجرورها على حسب العامل لا لازم النصب بالفعل الذي بعد أو بعامل محذوف خلافاً للزجاج ومتابعيه في قولهم : بذلك لما يلزم عليه من تعدي الفعل المتعدي بنفسه إلى مفعوله بالواسطة وهو لا يحتاج إليها فيعطف على محله كما يعطف على لفظه كقوله :
وسن كسنيق سناء وسنما ... ذعرت بمد لاح الهجير نهوض
وأنها تتعلق كمسائر حروف الجر وقال الرماني وابن طاهر لا تتعلق كالحرف الزائدة وأن التعلق بالعامل الذي يكون خبر لمجرورها أو عاملاً في موضعه أو مفسراً له قاله أبو حيان ، وقال ابن هشام قول الجمهور أنها معدية للعامل أن أرادوا المذكور فخطأ إنه يتعدى بنفسه أو محذوفاً يقدر بحصل ونحوه كما صرح به جماعة ففيه تقدير ما معنى الكلام مستغنى عنه ولم يلفظ به في وقت ، ثم على التعليق قال لكذة : حذفه لحن ، والخليل وسيبويه نادر .
متى يودون ذلك؟
قيل : في الدنيا . قاله الضحاك - في أحد أقواله -: هذا التمنى إنما هو عند المعاينة في الدنيا حين تبين لهم الهدى من الضلالة.
ونقل عن الضحاك : عند معاينة الموت .
قال ابن مسعود : هم كفار قريش ودّوا ذلك في يوم بدر حين رأوا الغلبة للمسلمين .
قيل : حين حل بهم ما حل من تملك المسلمين أرضهم وأموالهم ونساءهم ، ودُّوا ذلك قبل أن يحل بهم ما حل .
قيل : حين يشفع الرسول ويشفّع حتى يقول : من كان من المسلمين فليدخل الجنة ، ورواه مجاهد عن ابن عباس .
قيل : إذا عاينوا القيامة ذكره الزجاج ، أي : في القيامة إذا رأوا كرامة المؤمنين وذل الكافرين ؛ كما في قوله تعالى: { وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقَالُوا يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ } [الأنعام: 27]
قيل : عند كل حالة يعذب فيها الكافر ويسلم المؤمن ، ذكره ابن الأنباري
قيل : ودوا ذلك في الآخرة إذا أخرج عصاة المسلمين من النار قاله : ابن عباس ، وأنس بن مالك ، ومجاهد ، وعطاء ، وأبو العالية ، وإبراهيم ، ورواه أبو موسى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم .
فإخبار عنهم أنهم سيندمون على ما كانوا فيه من الكفر، ويتمنون لو كانوا مع المسلمين في الدار الدنيا.
ونقل السُّدِّيّ في تفسيره بسنده المشهور عن ابن عباس، وابن مسعود، وغيرهما من الصحابة: أن الكفار لما عُرضوا على النار، تمنوا أن لو كانوا مسلمين.
وقيل: المراد أن كل كافر يود عند احتضاره أن لو كان مؤمنا.
وقال سفيان الثوري: عن سلمة بن كُهَيْل، عن أبي الزعراء، عن عبد الله في قوله: { رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ } قال: هذا في الجُهنَمين إذ رأوهم يخرجون من النار، لأن خروج عصاة الموحدين من النار من صلب عقيدة اهل السنة والجماعة ، قال ابن جرير: حدثنا المثنى، حدثنا مسلم، حدثنا القاسم، حدثنا ابن أبي فَرْوة العَبْدي؛ أن ابن عباس وأنس بن مالك كانا يتأولان هذه الآية: { رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ } يتأولانها: يوم يحبس الله أهل الخطايا من المسلمين مع المشركين في النار. قال: فيقول لهم المشركون: ما أغنى عنكم ما كنتم تعبدون في الدنيا. قال: فيغضب الله لهم بفضل رحمته، فيخرجهم، فذلك حين يقول: { رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ }
وقال عبد الرزاق: أخبرنا الثوري، عن حماد، عن إبراهيم، عن خصيف، عن مجاهد قالا يقول أهل النار للموحدين: ما أغنى عنكم إيمانكم؟ فإذا (4) قالوا ذلك. قال: أخرجوا من كان في قلبه مثقال ذرة. قال: فعند ذلك قوله: { [رُبَمَا] يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ }
وهكذا روي عن الضحاك، وقتادة، وأبي العالية، وغيرهم. قال الحسن: إذا رأى المشركون المسلمين وقد دخلوا الجنة وما رأوهم في النار تمنوا أنهم كانوا مسلمين.
وقد ورد في ذلك أحاديث مرفوعة، فخرج الحافظ أبو القاسم الطبراني من حديث جابر بن عبد الله قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن ناسا من أمتى يدخلون النار بذنوبهم فيكونون في النار ما شاء الله أن يكونوا ثم يعيرهم أهل الشرك فيقولون ما نرى ما كنتم تخالفونا فيه من تصديقكم وإيمانكم نفعكم فلا يبقى موحد إلا أخرجه الله من النار - ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم - " ربما يود الذين كفروا لو كانوا مسلمين ".
وروي عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا اجتمع أهل النار في النار، ومعهم من شاء الله من أهل القبلة، قال الكفار لمن في النار من أهل القبلة: ألستم مسلمين؟ قالوا بلى، قالوا: فما أغنى عنكم إسلامكم وأنتم معنا في النار؟ قالوا: كانت لنا ذنوب فأخذنا بها، فيغضب الله تعالى لهم [بفضل رحمته] (2) فيأمر بكل من كان من أهل القبلة في النار فيخرجون منها، فحينئذ يودُّ الذين كفروا لَوْ كانوا مسلمين (3)
قال الإمام السعدي - رحمه الله - ذلك حين ينكشف الغطاء وتظهر أوائل الآخرة ومقدمات الموت، فإنهم في أحوال الآخرة كلها يتمنون أنهم مسلمون
والخلاصة : أنه لما انكشف لهم الأمر ، واتضح بطلان ما كانوا عليه من الكفر وأن الدين عند الله سبحانه هو الإسلام لا دين غيره ، حصلت منهم هذه الودادة التي لا تسمن ولا تغني من جوع ، بل هي لمجرد التحسر والتندم ولوم النفس على ما فرّطت في جنب الله . فبخير الله سبحانه تعالى ان يوماً سيأتي هو يوم القيامة عندما يرى الكافر المسلمين يدخلون الجنة ويدخل هو النار يود يومئذ متمنياً أن لو كان من المسلمين . وقد يحدث الله تعالى ظروفاً في الدنيا وأموراً يتمنى الكافر فيها لو كان من المسلمين .
قال الشنقيطي في أضواء البيان : « من المشهور عند علماء التفسير أن الظالم الذي نزلت فيه هذه الآية ، هو عقبة بن أبي معيط ، وأن فلاناً الذي أضله عن الذكر أمية بن خلف ، أو أخوه أبي بن خلف ، وذكر بعضهم أن في قراءة بعض الصحابة . ليتني لم أتخذ أبياً خليلاً ، وهو على تقدير ثبوته من قبيل التفسير ، لا القراءة ، وعلى كل حال فالعبرة بعموم الألفاظ ، لا بخصوص الأسباب ، فكل ظالم أطاع خليله في الكفر ، حتى مات على ذلك يجري له مثل ما جرى لابن أبي معيط .
وما ذكره جل وعلا في هذه الآيات الكريمة جاء موضحاً في غيرها . فقوله : { وَيَوْمَ يَعَضُّ الظالم على يَدَيْهِ } كناية عن شدة الندم والحسرة ، لأن النادم ندماً شديداً ، يعض على يديه ، وندم الكافر يوم القيامة وحسرته الذي دلت عليه هذه الآية ، جاء موضحاً في آيات أخر ، كقوله تعالى في سورة يونس : { وَأَسَرُّواْ الندامة لَمَّا رَأَوُاْ العذاب وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بالقسط وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ } [ يونس : 54 ] الآية . وقوله تعالى في سورة سبأ { وَأَسَرُّواْ الندامة لَمَّا رَأَوُاْ العذاب وَجَعَلْنَا الأغلال في أَعْنَاقِ الذين كَفَرُواْ } [ سبأ : 33 ] الآية : وقوله تعالى : { قَالُواْ ياحسرتنا على مَا فَرَّطْنَا فِيهَا } [ الأنعام : 31 ] الآية . والحسرة أشد الندامة وقوله تعالى : { وَقَالَ الذين اتبعوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُواْ مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ الله أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنَ النار } [ البقرة : 167 ] إلى غير ذلك من الآيات ، وما ذكره هنا من أن الكافر يتمنى أن يكون آمن بالرسول في دار الدنيا ، واتخذ معه سبيلاً : أي طريقاً إلى الجنة في قوله هنا : { ياليتني اتخذت مَعَ الرسول سَبِيلاً } جاء موضحاً في آيات أخر كقوله تعالى : { يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النار يَقُولُونَ ياليتنآ أَطَعْنَا الله وَأَطَعْنَا الرسولا } [ الأحزاب : 66 ] وقوله تعالى : { يَقُولُ ياليتني قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي } [ الفجر : 24 ] وقوله تعالى : { رُّبَمَا يَوَدُّ الذين كَفَرُواْ لَوْ كَانُواْ مُسْلِمِينَ } [ الحجر : 2 ] إلى غير ذلك من الآيات .
والسبيل التي يتمنى الكافر أن يتخذها مع الرسول المذكورة في هذه الآية ، ذكرت أيضاً في آيات أخر كقوله تعالى في هذه السورة الكريمة سورة الفرقان { قُلْ مَآ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلاَّ مَن شَآءَ أَن يَتَّخِذَ إلى رَبِّهِ سَبِيلاً } [ المزّمّل : 19 ] و [ الإنسان : 29 ] في المزمل والإنسان ، ويقرب من معناه المآب المذكورة في قوله تعالى : { ذَلِكَ اليوم الحق فَمَن شَآءَ اتخذ إلى رَبِّهِ مَآباً } [ النبأ : 39 ] وما ذكره هنا من أن الكافر ينادي بالويل ، ويتمنى أنه لم يتخذ من أضله خليلاً ، ذكره في غير هذا الموضع ، أما دعاء الكفار بالويل : فقد تقدم في قوله تعالى : { وَإَذَآ أُلْقُواْ مِنْهَا مَكَاناً ضَيِّقاً مُّقَرَّنِينَ دَعَوْاْ هُنَالِكَ ثُبُوراً لاَّ تَدْعُواْ اليوم ثُبُوراً وَاحِداً وادعوا ثُبُوراً كَثِيراً } [ الفرقان : 1314 ] وأما تمنيهم لعدم طاعة من أضلهم ، فقد ذكره أيضاً في غير هذا الموضع كقوله تعالى : { وَقَالَ الذين اتبعوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُواْ مِنَّا } »
__________
(1) قرأ عاصم ، ونافع : ربما بتخفيف الباء ، وباقي السبعة بتشديدها . وعن أبي عمر : الوجهان
(2) البيت لأبي داود الإيادي ( خزانة الأدب 4 : 188 ) وهو شاهد على أن رب المكفوفة بما لا تدخل إلا على الفعل عند سيبويه ، وهذا البيت شاذ عنده ، لدخول رب المكفوفة فيه على الجملة الإسمية ، فإن الجامل مبتدأ والمؤبل صفة وفيهم هو الخبر ، وتكون رب كما قال أبو حيان من حروف الابتداء ، تدخل على الجمل فعلية أو اسمية للقصد إلى تقليل النسبة المفهومة من الجملة ، فإذا قلت : ربما قام زيد فكأنك قللت النسبة المفهومة من قيام زيد ، وكذلك إذا قلت ربما زيد شاعر ، قللت نسبة شعر زيد ، وعن بعضهم أن رب المكفوفة نقلت من معنى التقليل إلى معنى التحقيق ، كما نقلت قد الداخلة على المضارع في نحو قوله تعالى " قد يعلم ما أنتم عليه " من معنى التقليل إلى معنى التحقيق . ودخولها على الجملة الاسمية مذهب المبرد والزمخشري وابن مالك . والجامل : الجماعة من الإبل ، لا واحد لها من لفظها ويقال إبل مؤبلة : إذا كان للقنية ، والعناجيج : الخيل الطوال الأعناق ، واحدها : عنجوج ، والمهار : جمع مهر ، وهو ولد الفرس ، والأنثى مهرة .
(3) أخرجه ابن جرير الطبري في التفسير: 14 / 2 (طبع الحلبي) وابن أبي عاصم في "السنة" 1 / 405-406، والحاكم في "المستدرك: 2 / 442، وقال: صحيح ولم يخرجاه. قال الهيثمي في "المجمع" (7 / 45) "رواه الطبراني، وفيه خالد بن نافع الأشعري، قال أبو داود: متروك. قال الذهبي: هذا تجاوز في الحد، فقد حدث عنه أحمد بن حنبل وغيره - وبقية رجاله ثقات". وعزاه في "كنز العمال" (14 / 541) أيضا لابن أبي حاتم، وابن مردويه، والبيهقي في "البعث والنشور" وانظر: تفسير ابن كثير: 2 / 547. وصححه الألباني في "ظلال الجنة في تخريج السنة" 1 / 406.