قال ابن عطاء في قوله تعالى : { وَقَدِمْنَا إلى مَا عَمِلُواْ مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاء مَّنثُوراً } [ الفرقان : 23 ] أطلعناهم على أعمالهم فطالعوها بعين الرضا فسقطوا من أعيننا بذلك وجعلنا أعمالهم هباءً منثوراً ، وهذه الآية وإن كانت في وصف الكفار لكن في الحديث أن في المؤمنين من يجعل عمله هباءً كماجاء في الحديث الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم : « لأعلمن أقواما يأتون يوم القيامة بحسنات أمثال جبال تهامة بيضا فيجعلها الله هباء منثورا . قال ثوبان : يا رسول الله ! صفهم لنا جلهم لنا ؛ أن لا نكون منهم ونحن لا نعلم . قال : أما إنهم إخوانكم ومن جلدتكم ويأخذون من الليل كما تأخذون ولكنهم أقوام إذا خلو بمحارم الله انتهكوها »
وعن ثوبان رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : « لأعلمن أقواما من أمتي يأتون يوم القيامة بأعمال أمثال جبال تهامة بيضاء فيجعلها الله هباء منثورا
قال ثوبان يا رسول الله صفهم لنا حلهم لنا لا نكون منهم ونحن لا نعلم قال أما إنهم إخوانكم ومن جلدتكم ويأخذون من الليل كما تأخذون ولكنهم قوم إذا خلوا بمحارم الله انتهكوها » رواه ابن ماجه ورواته ثقات .(1)
وعن مجاهد { وقدمنا إلى ما عملوا من عمل } قال : قدمنا إلى ما عملوا من خير ممن لا يتقبل منه في الدنيا ، يعني الأعمال التي اعتقدوها براً وظنوا أنها تقربهم إلى الله تعالى ، والمعنى إلى ما عملوا من أي عمل كان .
والهباء (2)في الأصل : ما ارتفع من تحت سنابك الخيل، والشيء المنبث الذي تراه في ضوء الشمس ، فعن الضحاك { هباء منثوراً } قال : الغبار ؛ و عن قتادة { هباء منثوراً } قال : هو ما تذروه الرياح من حطام هذا الشجر ، ( من جلدتكم ) أي من جنسكم . ( ويأخذون من الليل كما تأخذون ) أي يأخذون من عبادة الليل نصيبا .أي: باطلا لا ثواب له، فهم لم يعملوه لله عز وجل
والهباء المنثور ونظيره قوله تعالى : { كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ } [ النور : 39 ] { كَرَمَادٍ اشتدت بِهِ الريح } [ إبراهيم : 18 ] { كَعَصْفٍ مَّأْكُولِ } [ الفيل : 5 ]
والمنثور : غير المنتظم ، وهو وصف كاشِف لأن الهباء لا يكون إلاّ منثوراً ، فذكر هذا الوصف للإشارة إلى ما في الهباء من الحقارة ومن التفرق
والمعنى انهم كانوا يصومون ! ، ويصلون !، ويأخذون هنة من الليل ! ، ولكن كان إذا عرض عليهم شيء من الحرام وثبوا عليها ، فأدحض الله أعمالهم ، قال مالك بن دينار : هذا والله النفاق
"وحاصل هذه الأقوال: التنبيه على مضمون الآية، وذلك أنهم عملوا أعمالا اعتقدوا أنها على شيء، فلما عرضت على الملك الحَكَم العدل الذي لا يجور ولا يظلم أحدا، إذا أنها لا شيء بالكلية، وشبهت في ذلك بالشيء التافه الحقير المتفرق الذي لا يقدر صاحبه منه على شيء بالكلية، كما قال تعالى: "مثل الذين كفروا بربهم أعمالهم كرماد اشتدت به الريح". وقال أيضا: "أخبر أنه لا يحصل لهؤلاء المشركين -من الأعمال التي ظنوا أنها منجاة لهم- شيء، وذلك لأنها فقدت الشرط الشرعي؛ إما الإخلاص فيها، وإما المتابعة لشرع الله. فكل عمل لا يكون خالصا وعلى الشريعة المرضية فهو باطل، فأعمال الكفار لا تخلو من واحد من هذين، وقد تجمعهما معا فتكون أبعد من القبول حينئذ(3)".
والتشبيه البليغ الواقع في كلام سيد المرسلين بعظم الحسنات التي جناها البعض من المسلمين بجبال تهامة كناية عن ذلك ، فجبال تهامة تمتد ما بين عدن إلى تخوم الشام مسايرة شــــاطيء البحر الأحمر وهي تنكمش أحياناً من الشــــمال أو من الجنوب ، وبه يلملم : أحد المواقيت المشهورة وهو من كبار جبال تهامة على ليلتين من مكة ، ويختلف العلماء الأقـــــدمون في ذلك، ولعل أصدق دليــــل على ذلك ما ذكره (عرام السلمي) في صدر كتابه(4) هـذا: إن أول جبال تهــــامة هـــو (رضـــوى) وهو من ينبع مسيرة يوم.
وهو بلا شك نذير خطر يحدق بكل من تصدر الجماعات الاسلامية للحذر من الوقوع في الرياء في العمل الجماعي أو على أقل تقدير أن لا يكون - أصلاً - ممن احتسبوا أعمالهم لله فإنه ثبت في الحديث الصحيح انه : « لا أجر لمن لا حسبة له » أي احتسابا لله رب العرش العظيم.
(1) أخرجه ابن ماجه (2/1418 ، رقم 4245) ، قال المنذرى (3/170) : رواته ثقات . وقال البوصيرى (4/246) : هذا إسناد صحيح رجاله ثقات . وأخرجه أيضا : الرويانى (1/425 ، رقم 651) .
وأخرجه أيضا : الطبرانى فى الأوسط (5/46 ، رقم 4632) ، وفى الصغير (1/396 ، رقم 662) ، والديلمى (5/131 ، رقم 7715) ، الروض النضير ( 181 ) ، التعليق الرغيب ( 3 / 178 ) ، الصحيحة ( 505 ) ، حديث رقم :7174 و 5028 في صحيح الجامع .
(2) انظر هذه الأقوال في الطبري: 19 / 4-5، الدر المنثور: 6 / 246، زاد المسير: 6 / 83.
(3) تفسير ابن كثير رحمه الله (3 / 315)
(4) كتاب أسماء جبال تهامة وجبال مكة والمدينة - عرام بن الأصبغ السلمي