جاءت هذه الآية في منتصف لصيق لكلا آيتين تصف كل منهما خلقاً رديئاً ، طالما عاني ويعاني منه مجتمعنا ، وهذه بلا شك مقتل لأي مجتمع يبحث عن بنائية مثلى في العلاقات بين أفراده ، فقد ذكر الله الكذابين والحلافين بالباطل (1) وفصل بينهم في آية الدهان « وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ» فجاءت في حيز يقتضي النهي عن ذلك، خاصة إذا تأملنا مجيء الآيات هذه بعد آية « وإنك لعلى خلق عظيم »(2) ولعل ذلك يؤسس فهما مترامي الأطراف – غير محصور – أن أولئك الأصناف دائما تبحث عمن يدهن لهم ، والدهان معروف لدى القاصي والداني أنه طبقة طلاء ملونة؛ تغطي على قبح الشيء، فظاهره الجمال والزخرف بخلاف ما تم اختفائه بفعل الدهان ، وحقيقة هذا الفعل(3) : إظهار خلاف ما يضمر، وأن يجعل لشيء دهناً لتلوينه ؛ قال الحافظ ابن حجر – رحمه الله - : الدهانِ: وهو الذي يظهرُ على الشيءِ ويسترُ باطنه ) (4)
قال العلامة السعدي في تفسيره : أي: توافقهم على بعض ما هم عليه، إما بالقول أو الفعل أو بالسكوت عما يتعين الكلام فيه !!
يقول الله عز وجل: (( فَلا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ )) ( القلم:8، 9 ) .
وقال مجاهد : المعنى ودُّوا لو ركنت إليهم، وتركت الحق فيمالئونك
وبهذا يتضح خطر المداهنة ؛ وما تُؤدي إلى ضياعِ الدين كله أو بعضه.
بيد أنَّ في المداراةِ مندوحة عن المداهنة ، ويتضح معناها وشرعيتها من تعريفها :
« أن يتنازلَ المرءُ عن شيءٍ من دنياهُ أو عرضه، ليحافظ بذلك على دينهِ أو دنياه » ، وهذه قاعدة شرعية عظيمة ، كثيرا ما سمعناها ووعيناها من الشيخ الفاضل مشهور حسن في دروسه العلمية ، ألا وهي : « قاعدة سد الذرائع » ؛ فما كان ذريعةً لحفظِ الدين وأهله بصفةٍ خاصةٍ أو عامة، فهو مُداراة . فاللهم اجعلنا مغاليقاً للشر ومفاتيحاً للخير.
وقد بوب الإمام البخاري - رحمه الله - باباً أسماه :« باب المداراة مع الناس »
يقول الله عز وجل في وصف المؤمنين من أهل الكتاب، ويمدحهم بذلك قوله تعالى : (( وَيَدْرَأُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ )) (القصص: 54) .
ذكر القرطبي في قوله تعالى : (( وَيَدْرَأُونَ )) أي ( يدفعون، درأتُ إذا دفعتُ، والدرءُ الدفع. وفي الحديث (( أدرءوا الحدود بالشبهات ))
ونقل ابن حجر عن ابن بطال - رحمهما الله - : « قال ابن بطال: المداراة من أخلاق المؤمنين، وهي خفضُ الجناحِ للناسِ، ولينُ الكلمة، وترك الإغلاظ لهم في القول، وذلك من أقوى أسباب الألفة.وظن بعضهم أنَّ المداراة هي المداهنة فغلط، لأنَّ المداراة مندوبٌ إليها والمداهنة محرمة، والفرقُ: أنَّ المداهنة من الدهان، وهو الذي يظهرُ على الشيءِ ويستر باطنه.وفسرها العلماء بأنها مُعاشرةُ الفاسقِ، وإظهارُ الرضا بما هو فيه، من غير إنكارٍ عليه.والمداراةُ هي الرفقُ بالجاهل في التعلم، وبالفاسق في النهي عن فعله، وترك الإغلاظ عليه، حيث لا يظهر ما هو فيه، والإنكار عليه بلطفِ القول والفعل، ولا سيما إذا احتيج إلى تألفه ونحو ذلك »(5)
ونقل ابن رجب(6) عن الإمام أحمد قوله : « الناس يحتاجون إلى مداراة ورفق في الأمر بالمعروف بلا غلظة إلا رجلاً معلناً بالفسق فإنه لا حرمة له »
فالمداراة :
1- درء المفسدة والشر باللين من القول وترك الغلظة
2-الإعراض عن صاحب الشر إذا خيف شره
أو حصل منه أكبر مما هو ملابس له . كالرفق بالجاهل في التعليم ، وبالفاسق في النهي عن فعله وترك الإغلاظ عليه ، والإنكار عليه بلطف القول والفعل ولا سيما إذا احتيج إلى تأليفه .
وفي الحديث عن عائشة رضي الله عنها ، « أن رجلا استأذن على النبي صلى الله عليه وسلم فلما رآه قال : (بئس أخو العشيرة . وبئس ابن العشيرة) ، فلما جلس تطلق النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلِّم في وجهه وانبسط إليه ، فلما انطلق الرجل قالت عائشة رضي الله عنها : يا رسول الله حين رأيت الرجل قلت كذا وكذا ، ثم تطلقت في وجهه وانبسطت إليه . فقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلِّم : (يا عائشة متى عهدتني فحاشًا ، إن شر الناس عند الله منزلة يوم القيامة من تركه الناس اتقاء شره) » (1) . فالنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلِّم دارى هذا الرجل لما دخل عليه مع ما فيه من الشر لأجل المصلحة الدينية ، فدل على أن المداراة لا تتنافى مع الموالاة إذا كان فيها مصلحة راجحة من كف الشر والتأليف أو تقليل الشر وتخفيفه ، وهذا من مناهج الدعوة إلى الله تعالى
صور من مداراة السلف :
قال رجل لسالم بن عبد الله وقد زحمت راحلتُه راحلتَه في سفر: ما أراك إلا رجل سوء. فقال له سالم: ما أراك أبعدت.
وقالت امرأة لمالك بن دينار: يا مُرائي!. قال: متى عرفت اسمي؟! ما عرفه أحد من أهل البصرة غيرك.
ومر بعضهم على صبيان يلعبون بجوز، فوطئ على بعض الجوز بغير اختياره فكسره، فقال له الصبي: يا شيخ النار! فجلس الشيخ يبكي ويقول: ما عرفني غيره. ومر بعضهم مع أصحابه في طريق فرموا عليهم رماداً، فقال الشيخ لأصحابه: من يستحق النار فصالحوه على الرماد؟! يعني فهو رابح.
ورأى جندب إبراهيم بن أدهم خارج البلد فسأله عن العمران، فأشار له إلى القبور، فضرب رأسه ومضى، فقيل له إنه إبراهيم بن أدهم! فرجع يعتذر إليه، فقال له إبراهيم: الرأي الذي يحتاج إلى اعتذارك تركته ببلخ. ومر به جندي آخر وهو ينظر بستاناً لقوم بأجرة، فسأله أن يناوله شيئاً فلم يفعل وقال: إن أصحابه لم يأذنوا لي في ذلك. فضرب رأسه، فجعل إبراهيم يطأطئ رأسه وهو يقول: اضرب رأساً طالما عصا الله.
(1) وقد جاءت آيات القرآن تبين مساوئ تلك الصفات وتحذر منها
(2) قال العلامة الشنقيطي – رحمه الله - في تفسيره ففي هذه الآية تنزيهه صلى الله عليه وسلم مما اشتملت عليه من رذائل ونقائص وافتضاح لهم . وبيان الفرق والبون الشاسع بينه وبينهم . ففي الوقت الذي وصفة بأنه على خلق عظيم وصفهم بعكس ذلك من كذب ومداهنة وكثرة حلف ومهانة وهمزة ومشي بنميمة ومنع للخير وعتل وتجبر واعتداء ، وظلم ، وانقطاع زنيم ، عشر خصال ذميمة ، ونتيجتها الوسم بالخزي على الأنوف صغاراً لهم
(3) لسان العرب ، مادة « دهن »
(4) فتح الباري: 10 / 545 .
(5) فتح الباري: 10 / 545
(6) اختيار الأولى/ابن رجب