قوله تَعَالَى {الرَّحْمَن على الْعَرْش اسْتَوَى} وَورد هَذَا فِي كتاب الله فِي سِتَّة مَوَاضِع من كِتَابه وَهِي عُمْدَة المشبهة وَأقوى معتمدهم حَتَّى إِنَّهُم كتبوها على بَاب جَامع همذان فلصرف الْعِنَايَة إِلَى إيضاحها فَنَقُول:
إِمَّا أَنهم يعزلون الْعقل بِكُل وَجه وَسبب وَلَا يلتفتون إِلَى مَا سمي فهما وإدراكا فمرحبا بفعلهم وَبقول {الرَّحْمَن على الْعَرْش اسْتَوَى} 1. وَإِن تعدوا هَذَا إِلَى أَنه مستو على الْعَرْش فَلَا حبا وَلَا كَرَامَة فَإِن الله تَعَالَى مَا قَالَه مَعَ أَن عُلَمَاء الْبَيَان كالمتفقين على أَن فِي اسْم الْفَاعِل من الثُّبُوت مَا لَا يفهم من الْفِعْل
2. وَإِن قَالُوا هَذَا يدل على أَنه فَوْقه فقد تركُوا مَا التزموه وبالغوا فِي التَّنَاقُض والتشهي والجرأة
3. وَإِن قَالُوا بل نبقي الْعقل ونفهم مَا هُوَ المُرَاد فَنَقُول لَهُم مَا هُوَ الاسْتوَاء فِي كَلَام الْعَرَب؟
1. فَإِن قَالُوا الْجُلُوس والاستقرار قُلْنَا هَذَا مَا تعرفه الْعَرَب إِلَّا فِي الْجِسْم فَقولُوا يَسْتَوِي جسم على الْعَرْش
2. وَإِن قَالُوا جُلُوس واستقرار نسبته إِلَى ذَات الله تَعَالَى كنسبة الْجُلُوس إِلَى الْجِسْم
فالعرب لَا تعرف هَذَا حَتَّى يكون هُوَ الْحَقِيقَة!!
1. ثمَّ الْعَرَب تفهم اسْتِوَاء الْقدح الَّذِي هُوَ ضد الاعوجاج فوصفوه بذلك وتبرءوا مَعَه من التجسيم وسدوا بَاب الْحمل على غير الْجُلُوس وَلَا يسدونه فِي قَوْله تَعَالَى {وَهُوَ مَعكُمْ أَيْن مَا كُنْتُم} وَقَوله تَعَالَى {وَنحن أقرب إِلَيْهِ من حَبل الوريد} وَلَا تَقولُوا مَعَهم بِالْعلمِ
وَإِن قُلْتُمْ ذَلِك فَلم تحلونه عَاما وتحرمونه عَاما !!
وَمن أَيْن لكم أَن لَيْسَ الاسْتوَاء فعلا من أَفعاله تَعَالَى فِي الْعَرْش فَإِن قَالُوا لَيْسَ هَذَا كَلَام الْعَرَب
قُلْنَا وَلَا كَلَام الْعَرَب اسْتَوَى بِالْمَعْنَى الَّذِي تقولونه بِلَا جسم
وَلَقَد رام الْمُدَّعِي التفلت من شرك التجسيم بِمَا زَعمه من أَن الله تَعَالَى فِي جِهَة
وَأَنه اسْتَوَى على الْعَرْش اسْتِوَاء يَلِيق بجلاله
فَنَقُول لَهُ قد صرت الْآن إِلَى قَوْلنَا فِي الاسْتوَاء وَأما الْجِهَة فَلَا تلِيق بالجلال
وَأخذ على الْمُتَكَلِّمين قَوْلهم إِن الله تَعَالَى لَو كَانَ فِي جِهَة فإمَّا أَن يكون أكبر أَو أَصْغَر أَو مُسَاوِيا وكل ذَلِك محَال
قَالَ فَلم يفهموا من قَول الله تَعَالَى {على الْعَرْش} إِلَّا مَا يثبتون لأي جسم كَانَ على أَي جسم كَانَ
قَالَ وَهَذَا اللَّازِم تَابع لهَذَا الْمَفْهُوم وَأما اسْتِوَاء يَلِيق بِجلَال الله فَلَا يلْزمه شَيْء من اللوازم
فَنَقُول لَهُ أتميميا مرّة وقيسيا أُخْرَى إِذا قلت اسْتَوَى اسْتِوَاء يَلِيق بِجلَال الله فَهُوَ مَذْهَب الْمُتَكَلِّمين وَإِن قلت اسْتِوَاء هُوَ اسْتِقْرَار واختصاص بِجِهَة دون أُخْرَى لم يجد ذَلِك تخلصا من الترديد الْمَذْكُور والاستواء بِمَعْنى الِاسْتِيلَاء
وَأشْهد لَهُ فِي هَذِه الْآيَة أَنَّهَا لم ترد قطّ إِلَّا فِي إِظْهَار العظمة وَالْقُدْرَة وَالسُّلْطَان وَالْملك وَالْعرب تكني بذلك عَن الْملك فَيَقُولُونَ فلَان اسْتَوَى على كرْسِي المملكة وَإِن لم يكن جلس عَلَيْهِ مرّة وَاحِدَة ويريدون بذلك الْملك
- وَأما قَوْلهم فَإِن حملتم الاسْتوَاء على الِاسْتِيلَاء لم يبْق لذكر الْعَرْش فَائِدَة فَإِن ذَلِك فِي حق كل الْمَخْلُوقَات فَلَا يخْتَص بالعرش
فَالْجَوَاب عَنهُ:
أَن كل الموجودات لما حواها الْعَرْش كَانَ الِاسْتِيلَاء عَلَيْهِ اسْتِيلَاء على جَمِيعهَا وَلَا كَذَلِك غير وَأَيْضًا فكناية الْعَرَب السَّابِقَة ترجحه وَقد تقدم الْكَلَام عَن السّلف فِي معنى الاسْتوَاء كجعفر الصَّادِق وَمن تقدم
وَقَوْلهمْ اسْتَوَى بمنى استولى إِنَّمَا يكون فِيمَا يدافع عَلَيْهِ
قُلْنَا واستوى بمنى جلس أَيْضا إِنَّمَا يكون فِي جسم وَأَنْتُم قد قُلْتُمْ إِنَّكُم لَا تَقولُونَ بِهِ
وَلَو وصفوه تَعَالَى بالاستواء على الْعَرْش لما أَنْكَرْنَا عَلَيْهِم ذَلِك بل نعدهم إِلَى مَا يشبه التَّشْبِيه أَو هُوَ التَّشْبِيه الْمَحْذُور وَالله الْمُوفق
الامام احمد بن يجيى الحلبي في جزء نفي الجهة
نشره الامام السبكي في طبقات الشافعية الكبرى عند ترجمته