بسم الله الرحمن الرحيم
وبه استعين
والحمد لله رب العالمين
لا احصي ثناء عليه هو كما اثنى على نقسه
واصلي واسلم وابارك على سيدي رسول الله المعلم الاول والهادي الى الصراط المستقيم وعلى اله الطبيبن الطاهرين واصحابه الغر الميامبن رضي الله عنهم اجمعين وعنا بهم الى يوم الدين
ايها الاخوة الاحبة
اعلموا انه من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين
فالفقه سبب لهذا الخير العميم من الله
قال تعالى وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيرا
قال الامام مالك : الفقه في الدين
واعلموا أن (الْمَلَائِكَةَ لَتَضَعُ أَجْنِحَتَهَا لِطَالِبِ الْعِلْمِ رِضًا بِمَا يَطْلُبُ)
(وَمَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَلْتَمِسُ فِيهِ عِلْمًا سَهَّلَ اللَّهُ لَهُ بِهِ طَرِيقًا إِلَى الْجَنَّةِ)
هذِهِ المدونة، نهجتُ فيْهَا سبيْلَ الإيْجَاز والإختصَار، ,غايَتي مِن ذلِك توصيل المعلومة للمسلم باقصر الطرق
وألحقتُ بذلك الادلة
والشواهد من الكتاب والسنة المطهرة، وأثر الصحابة رضوان الله عليهم، وذكرتُ ائمة وفقهاء المذاهب الاربعة في منهج الاستدلال لديهم
ا وركزت على مواضع الخلاف بين المذاهب الاربعة وحرصت على منهجيه فيها اظهار الاجماع ....
سائلاً اللهَ عزَّوجل الإعَانَة ، واللطف في الأمر كلِّهِ ، وأنْ يَجعلَ مَا اكتبُهُ خالصَاً لوجههِ الكريْم
....وان يختم لي بالصالحات وحسن المآب معافاً في ديني وسالما في معتقدي
اللهم امين
الشيخ د. زياد حبوب أبو رجائي

قصيدة دع المكارم بين عمر والحطيئة

        في هذه المقالة ، سنتكلم عن شخوص اشتهرت كل في موقعها، وقد جمع الله بينهما تاريخيا في حدث، يظهر أحد طرفيه في غاية بالغة من خـُلـُق رفيع -طالما حثت عليه الشريعة- ألا وهو حسن الظن، وبطلها هو أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه، والآخر طرف شاعر هجّاء مخضرم في الشعر هو الحُطَيْئة جَرْوَلٌ بن أوس بن مالك العبسي(1)؛ شاعر مخضرم متين الشعر؛ أدرك الجاهلية والإسلام من بني عبس، وكان يهجو ويكثر فيه معنفا، لا يكاد يسلم من لسانه أحد. ولقب بذلك لقصر قامته الشديد وقربه من الأرض لأن الحطيئة تصغير من الحطأة وهي القملة الصغيرة(2)
وقد انتفض امير المؤمنين عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- غيْرَة على أعراض المسلمين؛ عندما كان الحطيئة الشاعر-غفر الله له- يكثرُ من الهجاء في أشعاره - هجاء المسلمين- بغير حق، حتى تمادى في الهجاء وغرق فيه، وهو ممن اشتهر عنه العقوق لوالديه:
قال يهجو أباه:
فنعم الشيخ أنت لدى المخازي            وبـئـس الشيخ أنت لدى الفعال
جمعت اللــؤم لا حــيـّاك ربــي          وأبـــواب الســفــاهــة والضلال
وقال يهجو أمه:
جَزاكِ اللهُ شرّاً من عجوزٍ ولَقَّاكِ العُقوقَ من البَنينَا
تنحي فاجلسي عني بعيــدا أراح الله مـنـك العالمــينا
أغربالا إذا استودعت سرا وكانونـا عــلى المتحدثينا
حياتك ما علمت حياة سوء وموتك قد يسر الصاحبينا
أغربالا: كناية عن عدم حفظ السر
كانونا: أي نارا وكناية عن شدة الغلاظة والغضب
وقال في هجاء زوجته:
أُطَوِّفُ مَا أُطَوِّفُ ثُم آتِي إِلَى بَيْتٍ قَعِيدتُهُ لَكَاعِ
قعيدته: اي ربة المنزل
لكاع: لئيمة
وفي عمه وخاله:
لحاك الله ثم لحاك حقاً أباً ولحاك من عم وخال
لحاك : لعنك الله
بل أدى به إلى هجاء نفسه!
أرى لي وجهاً شوه الله خلقه فقُبح من وجهٍ وقبح حامله
  • بين يدي القصة
ابتداءً؛ -اعترف- أن: هذا حق وَجَبَ عليّ تبيانه، لمّا قرأتُ بعضَ من سَفِهَ نفسَه؛ يلمز بـابن الخطاب -رضي الله عنه- في قصته مع الشاعر الحطيئة، إلا أن الخوضَ في معاني القصة وتأويلها؛ -ذلك كله- طريقة ٌمعروفة ٌ لأهل الأهواء المبغضين لعمر بن الخطاب-رضي الله عنه-، وليس مثلي من يذب عن الخليفة الفاروق ، فقد ابدع علماء وأئمة أهل السنة والجماعة في هذا المقام -لكن احببت ان اتقرب فيه الى الله بحب هذا الصحابي الجليل- وهو:( رجل لا يحب الباطل )، لأبين عذر ابن الخطاب-رضي الله عنه- في ذلك وتوجيهها في المسار الصحيح التي ينبغي فهمها ضمن شخصية امير المؤمنين عمر بن الخطاب-رضي الله عنه-.
فلا ينبغي لأحد أن يخرج عما مضت به السنة، وجاءت به الشريعة من ميزان الصحابة بما يليق بهم، قال الله تعالى:{رضي الله عنهم ورضوا عنه} قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « لعل الله أطلع على أهل بدر فقال اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم»(3)، وكيف لا ؟؛ وابن الخطاب بمنزلة مَيّزهُ اللهُ بها عن غيره من الأئمة فقد فاز في نعت الرسول له ولـابي بكر الصديق-رضي الله عنه- بقوله -صلى الله عليه وسلم- : «صاحباي».
وحسن الظن بالصحابي الجليل عمر بن الخطاب من -مقتضيات حب الصحابة (4). فإن عدمَ العـُدول عن نص ظاهر إلى تاويلات قد تخرج عن هذا الأصل، كما تفعل فرقة الرافضة!، يجب ان يتحكم في المقياس الذي نبنيه على هذا الحدث، لأن حُسْنَ الظن بالمسلمين -أهل الدين- واجبٌ، والتأويل لهم ما أمكن من أصول أهل السنة والجماعة في حفظ مكتنة الصحابة رضي الله عنهم اجمعين، فمدار رأيهم بين الأجر والأجرين ولا يتعدى ذلك.
أن "أكثر خطايا ابن آدم في لسانه" كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ ("السلسلة الصحيحة" 2 / 60) وهذا ما لا يتصف به الحطيئة، ولم يسلم منه المسلمون، فـ "المسلم من سلم الناس من لسانه و يده ( "السلسلة الصحيحة" 2 / 81 )
وكان يقال: عَقْلُ الرجل مدفون تحت لسانه. وقال يزيد بن المُهلًب: أكرهُ أن يكون عقلُ الرجل على طَرَف لسانه. يريد أنه لا يكون عقلُه إلا في الكلام.
وقال الشاعر:
كـَفَى بالـمرء عَيـْباً أن تراهُ لــه           وَجْــهٌ وليس له لسان
وقال صلى الله عليه وسلم: " ذبوا بأموالكم عن أعراضكم ، قالوا : يا رسول الله كيف نذب بأموالنا عن أعراضنا ؟ قال : يعطى الشاعر و من تخافون من لسانه ".("السلسلة الصحيحة"3 / 445)، لذا، لذلك السبب قد أجاز أبو موسى رضي الله عنه الحطيئة بالف، قال: سددت فمه بمالي أن يشتمني(!)
إن محملَ حُسْن الظن يجبُ أن يستحكمَ في نفس المسلم؛ ويُسْـتصْحبَ في الحكم المؤسس على قاعدة الايثار: "أحب لغيري ما أحب لنفسي"، هذا أساس متين في بنائية العلاقات البشرية، واسناد هذا الأس لحديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم-:« لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يُحِبَّ لِأَخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ»(5)، ولأهمية هذا الحديث فقد دعى الامام مسلم -رحمه الله- ان يبوب في صحيحه بابا وضعه في خصال الايمان: (باب الدليل على أن من خصال الإيمان أن يحب لأخيه المسلم ما يحب لنفسه من الخير)، لذلك لا نغلو إذا قلنا ان هذا الحديث أصل عظيم من أصول التربية الايمانية، وثمرة مرجوة منه في اشاعة الترابط المجتمعي مغلفة في أواصر الخير والمحبة بين أفراده.
وقد ورد في الحديث الصحيح النهي عن سوء الظن بالمسلم؛ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث»(6).
لهذا كله كان عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- يكثر من حسن الظن بإخوانه، بل يحمل ما يصدر عنهم من قول أو فعل على مَحْمَل حَسَن، متمثلاً قول الله تعالى:
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ(الحجرات:6)}، وفي قراءة صحيحة {فتثبتوا}
وقد روي عنه - رضي الله عنه - "ولا تظنن بكلمة خرجت من أخيك المسلم إلا خيرا، وأنت تجد لها في الخير محملا (7)
وجاء في الأثر عن السلف الصالح: (إذا بلغك عن أخيك الشيء تنكره؛ فالتمس له عذراً واحداَ إلى سبعين عذرا، فإن أصبته، وإلا؛ قل: لعل له عذرا لا أعرفه)(8)
وأخرج البيهقي في الشعب عن سعيد بن المسيب قال : كتب إليَّ بعض إخواني من أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أَنْ ضَعْ أَمْرَ أَخِيكَ عَلَى أَحْسَنِهِ مَا لَمْ يَأْتِكِ مَا يَغْلِبُكَ(9)
وهذا ما كان من الخليفة العادل الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه.
أن الناظر لقصة الحطيئة معه، يجد بكل سهولة أن الفساد يترتب على تقدير عدم فهم دلالة الهجاء في ابيات الحطيئة وما قد يترتب على ذلك من القدح به رضِيِ اللهُ عنه غير أن تقديم العذر له من باب التوضيح للمسألة ولا عبرة في ذلك على خطأ مقترف.
وبالذب عنه كما سياتي لاحقاً، من غير أن يترتب على هذا فساد -لم يصح- اخلالاً بالمعنى الذي يلتبس في حيثيات القصة، او يترتب على الأخذ به مخالفة أصل من أصول اللغة، أو خروج على قاعدة من قواعدها وأحكامها(!)
وخير قول: أن ما يترتب على ذلك التوجيه من معنى فاسد مبناه: الانجرار بالهوى والحقد الرافضي على سيدنا عمر ليس إلا! بل يترتب على إهماله ضرر؛ لأن الخلاف هنا غلو في الحقد وليس شكليا لا قيمة له كما يصوروه ، وقد يؤدي إلى اللبس واحتمال الوهم والغرق في الشبهات.
  • الشاعر الحطيئة:
أثر وفاة النبي -صلى الله عليه وسلم- وبداية خلافة أبي بكر الصديق رضي الله عنه، ثبتت طائفة على ما كانت عليه من الإسلام ولم تبدل ولزمت طاعة أبي بكر، وطائفة بقيت على الإسلام بيد أنهم امتنعوا عن دفع الزكاة إلى أبي بكر وامتنعوا عن السمع والطاعة لأحد بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان الحطيئة العبسي ممن ارتد وناصرهم، وأخذ أسيرا في عهد الصديق رضي الله عنه، ثم عاد وأسلم بعد حزم الخليفة أبي بكر الصديق رضي الله عنه ودفاعه عن بيضة الاسلام واعادة لحمة الامة جميعا بعد موت نبيها صلى الله عليه وسلم.
قال الأصمعي: كان الحطيئة سؤولاً ملحفاً دنيء النفس كثير الشر قليل الخير، بخيلاً قبيح المنظر رث الهيئة مغموز النسب فاسد الدين.
  • الزِبْرِقانُ بن بدر السعدي رضي الله عنه:
الزبرقان بن بدر بن امرئ القيس بن خلف بن بهدلة بن عوف بن كعب بن سعد بن زيد مناة بن تميم التميمي السعدي، يكنى أبا عياش، وقيل: أبو شذرة، واسمه الحصين. وقد تقدم في الحصين، وإنما قيل له الزبرقان لحسنه، والزبرقان القمر، وقيل: إنما قيل له ذلك لأنه لبس عمامة مزبرقة بالزعفران. وقيل: كان اسمه القمر، والله أعلم.
نزل البصرة، وكان سيداً في الجاهلية عظيم القدر في الإسلام، وفد على رسول الله صلى الله عليه وسلم في وفد بني تميم وكان يقال للزبرقان: قمر نجد، لجماله. وكان ممن يدخل مكة متعمماً لحسنه، وولاه رسول الله صلى الله عليه وسلم صدقات قومه بني عوف، فأداها في الردة إلى أبي بكر، فأقره أبو بكر على الصدقة لما رأى من ثباته على الإسلام وحمله الصدقة إليه حين ارتد الناس، وكذلك عمر بن الخطاب.
ضبط محل النزاع:
التعريض و التحقير أسلوب بلاغي
هذا الاسلوب يدلنا على مدى ترك الكلمة أثرا في نفوس القوم، والصارف الذي يصرف المعنى للذم قوله: دع المكارم
دعِ المكارمَ لا ترحلْ لبُغيَتِها واقعدْ فإنَّك أنتَ الطَّاعمُ الكاسي
  • أداة « لا » بين النهي والنفي
والحق انه لا يوجد نزاعِ، بل توهم قد يظهر -للوهلة الأولى- في قراءة البيت، حيث لو قريء -دون تمعن- تجد توجيها خفيا - يتركب في الذهن - يذهب بك الى ربط العامل بمعمول مشترك بخلاف ما هو واقع، وهنا الضمير الغائب في الفعلين (دع ، ترحل) قد يتوهم بتعلقه بالمكارم
وهنا في هذه القراءة -السريعة!!- يكون التوجه بالمدح هو أقرب للسياق - مع عدم الانتباه أو التعلق بالحركة الظاهرة على فعل ترحل(وهي السكون)
دع المكارم لا ترحل المكارم لبغيتها
وخلاصة عدم الالتفات الى حركة الفعل "ترحل" يقلب الفعل من حالة الطلب الى حالة الاخبار
فهنا اخبار بان المكارم لا ترحل الى غيرك، وبالتالي فانك ذو مكارم جواد لانك تطعم وتكسو الناس
وهذا المعنى قد يصح لو ان الحركة الظاهرة على الفعل (ترحل) هو الضمة بدلا من السكون، لأنها قلبت الفعل إلى حالة النفي
فالفعل يدور مع الحركة في كونه نفي او نهي، والحركة تعتمد على الأداة، والأداة « لا» تعبير عن النهي، وبالتالي فإن المعنى لا يستقيم بأي حال من الاحوال -إلا توهما- اذ ان الحركة الظاهرة على الفعل (ترحل) هي السكون مما يعني انها في حيز النهي
وعليه...
تكون "لا" أداة نهي ( حالة طلب ) فهو يطلب منه الا يرحل الى طلب المكارم أي: كناية عن عدم امتلاكها أصلا، فالمنطق يقول ان من يطلب شيئا يكون مفقودا عنده والا لما لزم الرحيل والبحث عنه!
لذلك يصبح المعنى:
لا تذهب لطلب المكارم لانك تفتقدها، وكون المكارم معدومة لديه فانه بالضرورة ان تكون دلالة التضمين لاسم الفاعل صورة مقلوبة لاسم المفعول به - كما سياتي في النقطة التالية، وإلا كان التناقض في البيت واضح:
  • فاعل في معنى مفعول وأسلوب النسب
وهو اطلاق اسم الفاعل وتنسب إليه الصفة والمقصود يكون المفعول به
بهذا الاسلوب يكون الطاعم يعني: المطعوم ، والكاسي تعني المكسو
قالوا-في لغة العرب- للجبل الذي لا نبت فيه حالِقٌ وإنما هو محلوق من النَّبات
لذا لا ينكر أن يخرج «المفعول» على « فاعل»،كقوله تعالى:
{فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ }(الحاقة:21) ومعناها: مرضية
{ خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ (الطارق: 6)}
وبلاغة هذا الاسلوب، إنما يريدون المبالغة والإجادة، وقال الفَرّاء: يعني المَكْسُوّ كماءٍ دافِق وعِيشة راضية
أي أنك ترضى بأن تشبع وتلبس، يقال: كسى الرجل يكسى إذا اكتسى ، فالمعنى يتضح بأنه: من كفي طعامه وكساءه، فاكتفى ولم يسع للمكارم
هو من باب النسب أي ذو طعام وذو كسوة، وعليه فإنه ذم ، أي أنه : ليس له فضل غير أنه يأكل ويشرب، وأنك ترضى بأن تشبع وتلبس


تفاصيل القصة
**********************
كان الزبرقان قد سار إلى عمر بصدقات قومه، فلقيه الحطيئة ومعه أهله وأولاده يريد العراق فراراً من المجاعة والجدب والقحط وطلباً للعيش، فقال الحطيئة: وددت أني أصبت رجلاً يحملني وأصفيه مديحي وأقتصر عليه. قال الزبرقان: قد أصبته، تقدم على أهلي فإني على إثرك، فأمره الزبرقان أن يقصد أهله وأعطاه أمارة يكون بها ضيفاً له حتى يلحق به، وقد كان بين الزبرقان وبين بني قريع مقارضة في الشعر فقد كانا يتنازعان الشرف، فأراد أن يستعين بالحطيئة عليهم وبشعره، وقال له : إلـْحقْ ببني سعد حتى آتيك فإنما أؤدي هذه الصدقة إلى أبي بكر ثم ألحق بك، قال: عمن أسأل؟ قال: أم مطلع الشمس ثم سل عن الزبرقان بن بدر ثم ائت أم سدرة فقل لها: يقول لك بعلك الزبرقان بن بدر أحسني إلى قومك، فإنها ستفعل.
ففعل الحطيئة ذلك، وكانت ابنته مليكة جميلة، فحسده بنو عمه بنو لأي فدسوا إلى الحطيئة فقالوا: إن تحولت إلينا أعطيناك مائة ناقة ونشد إلى كل طنب من أطناب بيتك حلة تحويه، وقالوا لامرأة الزبرقان: إنما قدم الزبرقان هذا الشيخ ليتزوج ابنته فقدح ذلك في نفسها، فكرهت امرأته مكانة مليكة فظهرت منها لهم جفوة ، فاغتنم بنو قريع هذه الجفوة، فدعوه إلى ما عندهم فأسرع، فبنوا عليه قبة ونحروا له وأكرموه كل الإكرام، فأتاه نقيض بن شماس فقال: يا أبا مليكة جئت من بلادك ولا أرى في يدك شيئاً، هل لك إلى خصلة هي خير لك مما أنت فيه، قال: ما هي؟ قال: مائة بعير وتتحول إلينا ونحن ضامنون لأهلك من عيالك أن يدبروا من حالك أن تخلفه، فتحول إليهم.
فقدم الزبرقان، فقال: أين جاري؟ قالت امرأته: خبث عليك، وقدم الزبرقان أسيفاً عاتباً على امرأته!
ثم أخذ الحطيئة يهجو الزبرقان بن بدر، فقال في أبيات:
دع المكارم لا ترحلْ لبغيتها         واقعد فانك أنت الطاعم الكاسيعن الشعبي أن الزبرقان بن بدر أتي عمر بن الخطاب ، وكان سيد قومه ، فقال : يا أمير المؤمنين ان جرولا هاجني يعني الحطيئة فقال عمر : بم هجاك ؟ فقال بقوله :
دع المكارم لا ترحل لبغيته            واقعد فانك أنت الطاعم الكاسي
فقال عمر : ما أسمع هجاء ، أما ترضى أن تكون طاعما كاسيا?
فقال الزبرقان : يا أمير المؤمنين والذي نفسي بيده ما هجي أحد بمثل ما هجيت به ، فخذ لي ممن هجاني
وهنا امتثل عمر بن الخطاب رضي الله عنه بأمر الهي من الآداب التي على أولي الألباب، التأدب بها واستعمالها كما جاء في الكتاب العزيز ألا وهو التثبت من الخبر!
فالفاسق في الرواية كما يظهر هو الحطيئة الشاعر، وفسقه يتبين بوضوح هجاء الصحابي الزبرقان رضي الله عنه
قوله تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ (الحجرات6)}
فكان يلزم التبين في نبئه على قراءة : فتبينوا . والتثبت على قراءة : فتثبتوا
فقال عمر : على بابن الفريعة ، يعني حسان بن ثابت ، فلما أتي به
قال له يا حسان : إن الزبرقان يزعم أن جرولا هجاه
فقال حسان بم ؟ قال بقوله : دع المكارم لا ترحل لبغيتها واقعد فانت الطاعم الكاسي
فقال حسان : ما هجاه يا أمير المؤمنين
قال فماذا صنع به ؟ قال سلح عليه أو ذرق عليه ( السلح هو الغائط (10)) كناية عن شدة الهجاء!!
فقال عمر : عليّ بجرول ، فلما جيئ به قال له : يا عدو نفسه تهجو المسلمين فأمر به، فألقاه عمر رضي الله عنه في حفرة وغطاه بساتر من الجلد فأصبح مظلماً، اتخذها أمير المؤمنين رضي الله عنه محبساً وسجنا في عهده، ولم تكن السجون مبنية، - فأول من بناها علي بن أبي طالب رضي الله عنه، بنى بالكوفة سجناً سماه مَخِيساً-، وقال له عمر بن الخطاب رضي الله عنه: يا خبيث لأشغلنك عن أعراض المسلمين
فقال له:
تحنن علي هداك المليك فإن لـكـل مـقـــــــامٍ مــقـــــالا
ولا تأخذني بقول الوشاة فــــــإن لــــــكل زمانٍ رجــالا
فإن كان ما زعموا صادقاً فسيقت إليك نسائي رجالا

فلم يلتفت عمر إليه حتى كتب الحطيئة إلى عمر من السجن يا أمير المؤمنين.

مــاذا تــــقول لأفراخ بذي مرخ زغب الحواصل لا ماء ولا شجرُ
ألــقيت كاسبــَهم في قعر مظلمة فــارفق عليك سلام الله يا عـمرُ
أنت الامام الذي من بعد صاحبه ألـــقت اليك مقاليد النهى البشرُ
ما آثروك بها إذ قــدّمـوك لهــا لكـن لانـفسـهم كــانت بـك الاثرُ

والزغب : جمع الأزغب وهو ما يعلو جسمَه الزَّغَبُ ( شعيرات شقرات تظهر على جسم الاطفال )وهي كناية عن اولاه الصغار فلا معيل لهم كونهم أفراخ صغيرة
ذي مرخ : مكان سكناهم
كاسبهم: الذي يعمل ويكسب لهم لتحضير قوتهم
وكلمه فيه عمرو بن العاص وعبد الرحمن بن عوف والزبير بن العوام رضي الله عنهم من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم(البداية والنهاية 5/42)، وأخبر عمر برقة حاله وقلة نصر قومه له؛ فأخرج رضي الله عنه الحطيئة من الحبس، فدعاه
وقال رضي الله عنه :أشيروا علي في الشاعر ، فإنه يقول الهجر ، ويشبب بالحرم ، ويمدح الناس ، ويذمهم بغير ما فيهم قال : ما أراني إلا قاطعا لسانه » . فقالوا : لا ، يعود يا أمير المؤمنين ، وأشاروا إليه ، أن قل : لا أعود ، فقال : لا أعود يا أمير المؤمنين ، فقال : النجا
فقال له : إياك والشعر!؛ ويحك يا جرول لم تهجو المسلمين ؟
قال : لخصال احتوتني احداهن إنما هي :
  • نملة تدب على لساني
  • إذن تموت عيالي جوعا، إنما هي كسب ومأكلة عيالي، ويا أمير المؤمنين من عجز عن القوت كان أعجز منه عن السكوت
فدمعت عينا عمر رضي الله عنه ، وقال فشبب بأهلك، وإياك وكل مدحة مجحفة -وفي رواية- فإياك والمقذع من القول، قال : ومال المدحة المجحفة ؟ المقذع؟ قال : تقول بنو فلان خير من بني فلان : إمدح ولا تفضل، قال : أنت يا أمير المؤمنين أشعر مني.
ثم قال رضي الله عنه : كم رأس مالك من العيال ؟ فعدهم عليه فأمر لهم بطعام وكسوة ونفقة ما يكفيه سنة ، وقال له : إذا احتجت فعد الينا ، فلك عندنا مثلها ،ولا تهجون أحدا فأقطع لسانك.
فقال جرول : جزاك الله يا أمير المؤمنين جزاء الابرار وأجر الاخيار، فقد بررت ووصلت وتعطفت وأمتننت ، فلما مضى جرول
قال عمر : أيها الناس اتقو الله في ذوي الارحام وجيرانكم ، فمتى علمتم حاجتهم فواسوهم وتعطفوا عليهم ، ولا تحوجوهم إلى المسألة ، فان الله عزوجل يسأل العبد إذا كان غنيا مكفيا عن رحمه وقريبه وجاره إذا كان محتاجا أن يعطيه قبل سؤاله إياه. ((كنز العمال: 3/ 843-845))

من اخباره:
  • جاور الحطيئة قوماً من بنى كلاب،فلما جنه الليل سمع غناء، فقال: جنبونى ندى مجلسكم، ولا تسمعونى أغانى شبيبتكم. فإن الغناء رقية الزنى".(اغاثة اللهفان-ابن القيم)
  • كان الحطيئة وكعب الاحبار عند عمر رضي الله تعالى عنه فأنشد الحطيئة:
مَنْ يَفْعَلِ الْخَيْرَ لَا يَعْدَمْ جَوَائِزَهُ لَا يَذْهَبُ الْعُرُفُ بَيْنَ اللهِ وَالنَّاسِ
فقال كعب: هي والله في التوراة: لا يذهب المعروف بين الله وبين خلقه
من يفعل الخير يجده عندي ولا يذهب الخير بيني وبين عبدي(( الكتاب : غذاء الألباب في شرح منظومة الآداب- السفاريني 1/189 ))
  • استعمل عمر بن الخطاب على حوران علقمة بن علاثة فمات بها. وكان الحطيئة خرج إليها فمات علقمة قبل أن يصل إليه الحطيئة، فأوصى له علقمة كبعض ولده، فقال الحطيئة:
    فما كان بيني لو لقيتك سالماً وبين الغنى إلا ليال قلائل
فقال له ابنه: كم ظننت علقمة يعطيك؟ قال: مئة ناقة يتبعها مئة من أولادها. فأعطاه إياها.
وقيل إنه بلغه أنه في الطريق يريده، فأوصى له بمثل سهم من سهام ولده.
من اجمل أبياته:
أقـلـــوا عليهـــم لا أبــاً لأبـــيــكمُ من اللوم أو سدوا المكان الذي سدوا
أولئك قـــوم إن بنوا أحسنوا البنا وإن عاهدوا أوفوا وإن عقدوا شدوا
وإن كانت النعماء فيهم جزوا بهـا وإن أنعــمــوا لا كــدروهـا ولا كدوا
.....:::::::****::::::.....

ولست أرى السعادة جمع مال ولكن التقي هو الســــعيد
وتقوى الله خير الزاد ذخــراً وعنـــــد الله للأتقى مــــزيد


الحطيئة عند وفاته عام 59 هـ / 665 م
  • لما حضرت الحطيئة الوفاة قيل له: أوص؛ قال: بم أوصي؛ مالي للذكور دون الإناث؛ فقالوا: إن اللّه لم يأمر بهذا! فقال. لكني آمر به؛ ثم قال. ويل للشعر من راوية الشعر؛ فقيل له. أوص يا أبا مليكة للمساكين بشيء؛ قال. أوصيهم بالمسألة ما عاشوا فإنها تجارة لن تبور. قيل: أعتق عبد ك يساراً؛ قال: اشهدوا أنه عبد ما بقي. قيل. فلان اليتيم ما توصي فيه؟ قال: اوصي أن تأكلوا ماله وتنيكوا أمه؛ قالوا: ليس إلا هذا! قال: احملوني على حمار فإنه لم يمت عليه كريم لعليّ أنجو؛ ومات مكانه.
  • لما حضرت الحطيئة الوفاة ؛ قال : احملوني على حمار ؛ فإنه لم يمت عليه كريم قط ؛ فلعلي أن أبقى . ثم تمثل :
    ( لكل جديد لذة غير أنني ... وجدت جديد الموت غير لذيذ )
  • الربيع بن سليمان، قال: سمعت الشافعي، يقول: لما حضرت الحطيئة الوفاة قيل له: أوص، قال: «أوصي المساكين بالمسألة»، قيل له: أوص في مالك. قال: «مالي للذكور دون الإناث»، قيل: ليس هذا قضاء الله، قال: «لكني أقوله» ثم قال: «احملوني على حمار، فإنه من يموت عليه كريم»(حلية الاولياء 9/136)

وفي هذا العام توفي سعيد بن العاص و أبو هريرة وقيس بن سعد بن عبادة ومعقل بن يسار المزني وعائشة ام المؤمنين رضي الله عنهم
والله أسأل أن أن ينفع بهذا العمل على قدر العناء فيه، وأن يجعله مخلصل له تعالى




اعداد: زياد أبو رجائي
20-2-2012




(1) (انظر البداية والنهاية:7/246) هو الحطيئة جرول (والجرول: الحَجَر) بن أوس بن مالك العبسي، المتوفى سنة 45 هـ ، قال أبو عبيدة في النقائض : "كان المخبل القريعي أهجى العرب . . . ثم كان بعده حسان بن ثابت ، ثم الحطيئة ، والفرزدق ، وجرير ، والأخطل . هؤلاء الستة الغاية في الهجاء وغيره ، ولم يكن في الجاهلية ولا في الإسلام لهم نظير(النقائض:1048)
كني باسم ابنته: أبو مليكة
كان جوالاً في الآفاق يمتدح الكبار ويستجديهم، وكان سؤولاً، يمتدح الرؤساء من الناس، ويستجديهم ويقال كان بخيلا
(2) كتاب الاغاني (2/157) وكتاب الاصابة (1/ 378) : لقب بالحطيئة لانه ضرط ضرطة بين قوم، فقيل له، ما هذا ؟ فقال: إنما هي حطيئة: فسمي الحطيئة.
والحطيئة تصغير حطأة: فعلة من قولهم حطأ حطأ إذا ضرط (انظر: تاج العروس).
(3) البخاري (3007) ومسلم (2494) .
(4) أهل الحديث يحبون الصحابي لإسلامه وصحبته, ويترحّمون عليه ويرضون عنه, ويذكرون ماله من الفضائل ولا يسبّونه ولا يؤذونه.
(5) متفق عليه (البخاري ( 1 / 11 ) ، و مسلم ( 1 / 49 )) واللفظ للبخاري
(6) رواه البخاري انظر فتح الباري (9/ 198)
(7) رواه أحمد في الزهد كما في الدر المنثور (7/565)
(8) شعب الإيمان:(6/323) برقم (8345)
(9) البيهقي رقم 7992 ، وكنز العمال 44372
(10) ( خرأ ) الخرء بالضم العذرة خرئ خراءة، واسم السلح الخرء انظر لسان العرب