كثير من الوهابية الذين يتبعون ابن تيمية ينكرون أنه مجسم ويجادلون بغير علم..وهناك منهم من يعرف تجسيمه ولكنه لا يعتبر ذلك تجسيما..وهناك منهم من يحاول أن يحمل كلام ابن تيمية في التجسيم محامل بعيدة لينفي عنه كلامه الصريح...
في هذه المدونة سأذكر تجسيم ابن تيمية بما يقطع الشك ويثبت تجسيمه..فأبدأ بتوفيق الله قائلا:
المخلوقات التي خلقها الله عز وجل إما أجسام أو قائمة بأجسام...والجسم هو ما له أبعاد ثلاثة الطول والعرض والعمق وهو ما عرفه الإمام الراغب في مفرداته (ص94) حيث قال:(جسم: الجسم ماله طول وعرض وعمق ) انتهى..
وكل ما له طول وعرض وعمق هو ذو حجم وبالتالي يشغل حيزا وحدا ونهاية...
وابن تيمية التزم كل ذلك..فهو لم يمنع الجسمية عن الله وأثبت الحجم والحيز والحد والنهاية..وذلك تراه واضحا في كتابه الدال على تجسيمه بصريح العبارة(بيان تلبيس الجهمية)الذي هو تصحيح للتجسيم الذي أبطله الفخر الرازي في كتاب(تأسيس التقديس)..
وسأذكر بعض أقواله في ذلك:
1-ابن تيمية لم ينف الجسمية:
قال ابن تيمية في بيان التلبيس (1/127) :(( ومعلوم أن كون الباري ليس جسماً ليس هو مما تعرفه الفطرة بالبديهة ولا بمقدمات قريبة من الفطرة ولا بمقدمات بينة في الفطرة، بل بمقدمات فيها خفاء وطول وليست مقدماتٍ بينةً ولا متفقاً على قبولها بين العقلاء، بل كل طائفة من العقلاء تبين أن من المقدمات التي نفت بها خصومها ذلك ما هو فاسد معلوم الفساد بالضرورة عند التأمل وترك التقليد , وطوائف كثيرون من أهل الكلام يقدحون في ذلك كله ويقولون بل قامت القواطع العقلية على نقيض هذا المطلوب وأن الموجود القائم بنفسه لا يكون إلا جسماً وما لا يكون جسماً لا يكون إلا معدوماً ومن المعلوم أن هذا أقرب إلى الفطرة والعقول من الأول) ...
فانظر لقوله الصريح بعدم نفي الجسم عن الله:(وما لا يكون جسماً لا يكون إلا معدوماً ومن المعلوم أن هذا أقرب إلى الفطرة والعقول من الأول)..
2-ابن تيمية يثبت الحجم لله..
يبدأ ابن تيمية في إثبات الحجم لله عز وجل من تفسير الصمد في سورة الإخلاص بأنه الذي يجتمع ولا يفترق وأنه باجتماعه لا جوف له..
ففي إثبات الاجتماع قال في بيان تلبيسه (1/621) :(والله سبحانه وتعالى صمد لا يجوز عليه التفرق والانفصال كما تقدم بيانه , وأن هذا الاسم يقتضي الاجتماع والقوة , ويمنع التفرق والانفصال , وإذا كانت الصمدية واجبةً له كان الاجتماع واجباً له , والافتراق ممتنعاً على ذاته) .
ولتأكيده أن الصمد هو اجتماع بعضه إلى بعض بلا خلل
قال في مجموع الفتاوى (17/229) :
(وكذلك لفظ الصمد فيه الجمع , والجمع فيه القوة , فإن الشيء كلما اجتمع بعضه إلى بعض ولم يكن فيه خلل , كان أقوى مما إذا كان فيه خلو) .
وفي إثبات أن الصمد هو المجتمع الذي لا جوف له أي أن داخله ممتلئ قال في بيان التلبيس (1/713):(...فإن الصمد هو الذي لا جوف له فلا يأكل ولا يشرب ولا يلد ولا يخرج منه شيء ولا غيره من جنس الفضلات التي تخرج من الانسان)..
ثم في إثباته الحجم العظيم قال ابن تيمية في بيان التلبيس (1/767):
(الوجه السابع عشر أنهم يقولون: نقول إنه لا يرى إلا كبيراً عظيماً لا نقول إنه يرى لا صغيراً ولا كبيراً , بل نقول إنه يرى عظيماً كبيراً جليلاً كما سمي ووصف نفسه بذلك في الكتاب والسنة , ومن لم يقل ذلك من المنازعين كان ما ذكره حجة عليه)...
ثم أكد على كون حجم الله أكبر من حجم العرش قال ابن تيمية في منهاج السنة النبوية (2/630) :(فإذا قيل إنه ما يفضل من العرش أربعة أصابع , كان المعنى ما يفضل منه شيء , والمقصود هنا بيان أن الله أعظم وأكبر من العرش)..انتهى..
فالله أعظم وأكبر من العرش وهذه مفاضلة في الحجم كما لا يخفى على الفاهم..
3-ابن تيمية يصرح بأن الله له حد ونهاية وأنه قول السلف والأئمة زعما وزورا منه...فقال في بيان التلبيس (1/97) :
(وأما وصفه بالحد والنهاية الذي تقول أنت أنه معنى الجسم , فهم فيه كسائر أهل الإثبات على ثلاثة أقوال: منهم من يثبت ذلك , كما هو المنقول عن السلف والأئمة , ومنهم من نفى ذلك , ومنهم من لا يتعرض له بنفي ولا إثبات)...
ثم قال مدافعا عن لزوم الله الحيز وقدمه وأن لزومه أولى من لزوم الصفات:(يقال له: هؤلاء إذا قالوا بأنه مختص بحيز وجودي أزلاً وأبداً فليس ذلك عندهم شيئاً خارجاً عن مسمى الله كما أن الحيز الذي هو نهايات المتحيز وحدوده الداخلة فيه ليس خارجاً عنه بل هو منه.
وعلى هذا التقدير فيكون إثباتهم لقدم هذا الحيز كإثبات سائر الصفاتية للصفات القديمة من علمه وقدرته وحياته لا فرق بين تحيزه وبين قيامه بنفسه وحياته وسائر صفاته اللازمة، والحيز مثل الحياة والعلم بل أبلغ منه في لزومه للذات، كما أنه كذلك في سائر المتحيزات.
فالحيز الذي هو داخل في المتحيز الذي هو حدوده وجوانبه ونواحيه ونهاياته أبلغ في لزومه لذاته من بعض الصفات كالسمع والبصر والقدرة وغير ذلك)..انتهى
4-ابن تيمية يبين بوضوح أن الصفات الخبرية أعيان..
ابن تيمية يفرق بين الصفات كالسمع والبصر والعلم بأنها صفات معان قائمة بالذات..وبين الصفات الخبرية كالعين واليد والساق والقدم بأنها أعيان قائمة بذاتها يتألف منها الذات الإلهية تألفا لا افتراق فيه..فقال في بيان تلبيسه :(فمعلوم أن هذا القول الذي حكاه(أي الرازي)هو قول من يثبت هذه بالمعنى الذي سماه هو "أجزاءً وأبعاضاً" , فتكون هذه صفاتٍ قائمة بنفسها كما هي قائمة بنفسها في الشاهد , كما أن العلم والقدرة قائم بغيره في الغائب والشاهد لكن لا تقبل التفريق والانفصال , كما أن علمه وقدرته لا تقبل الزوال عن ذاته , وإن كان المخلوق يمكن مفارقة ما هو قائم به وما هو منه , يمكن مفارقة بعض ذلك بعضاً , فجواز ذلك على المخلوق لا يقتضي جوازه على الخالق , وقد عُلم أن الخالقَ ليس مماثلاً للمخلوق , وأن هذه الصفاتِ وإن كانت أعياناً فليست لحماً ولا عصباً ولا دماً ولا نحو ذلك ولا هي من جنس شيء من المخلوقات..)..انتهى
فها هو بقوله(وأن هذه الصفات وإن كانت أعيانا..)يقر بأن هذه الصفات الخبرية هي أعيان قائمة بذاتها..ومعلوم أن العين يعني المتحيز القائم بذاته وهو الجزء والبعض الذي يتركب منه الشيء..
هذه بعض النصوص القليلة التي تبين للباحث الناظر أن ابن تيمية مجسم تجسيما صريحا..فهو لم يمنع إطلاق الجسم والتزم لوازمه من حجم وحد ونهاية وحيز وتركب من أعيان...
ومن أراد الاستزادة..فليرجع لكتاب الشيخ سعيد فودة (الكاشف الصغير)..وهناك بحث مفصل مفيد للشيخ عثمان النابلسي موجود على منتدى الأصلين في النت تحت عنوان(الصفات الإلهية بين أهل التنزيه وأهل التشبيه)..وبالله التوفيق..
من كتباات الشيخ _عبدالناصر_حدارة..