الذاهبون إلى أنه فعله عامدا أربع فرق:
1. منهم من قال: النهي نهي تنزيه لا تحريم وقد سبق.
2. ومنهم من قال: كان عمدا من آدم وكان كبيرة مع أن آدم في ذلك الوقت كان نبيا، وقد عرفت فساده.
3. ومنهم من قال: فعله عمدا لكن كان معه من أعمال القلب من الإخلاص والوجل والإشفاق ما صيره صغيرة، وعورض بأن المقدم على ترك الواجب أو فعل المنهي عمدا لا يعذر بدعوى الخوف، فلا يصح وصف الأنبياء بذلك.
4. ومنهم- وهو اختيار أكثر المعتزلة- من قال: إنه أقدم على الأكل بسبب اجتهاد أخطأ فيه، وذلك لا يقتضي كون الذنب كبيرة، بيان الاجتهاد أنه لما قيل له وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ فلفظ هذِهِ قد يشار بها إلى الشخص، وقد يشار بها إلى النوع كما
روي أنه صلى الله عليه وسلم أخذ حريرا وذهبا بيده وقال «هذان حرامان على ذكور أمتي» «1» . وتوضأ ثم قال «هذا وضوء لا يقبل الله الصلاة إلا به»
وأراد نوع الحرير والذهب، ونوع الوضوء. فمراد الله تعالى من كلمة هذِهِ ذلك النوع لا الشخص.
وكان آدم ظن أن النهي قد ورد على الشجرة المعينة فتركها، وتناول من شجرة أخرى من ذلك النوع. واعترض بأن هذا في أصل اللغة للإشارة الشخصية، وإذا حمل آدم اللفظ على موضوعه فكيف يعد مخطئا؟ وأيضا هب أن لفظ هذِهِ متردد بين الشخص والنوع، فإن كان مع قرينة الإشارة النوعية وقد قصر في معرفتها فيكون مذنبا، وإن عرفها ومع ذلك أقدم على التناول فكذلك، وإن لم يكن فيه قرينة فلا يعد مخطئا. وأيضا الأنبياء لا يجوز لهم الاجتهاد لأنهم قادرون على تحصيل اليقين بالوحي، فالإقدام على الاجتهاد عين المعصية.
وأيضا هذه المسألة إن كانت قطعية فالخطأ فيها كبيرة، وإن كانت من الظنيات فإن قلنا: كل مجتهد مصيب. فلا خطأ، وإن قلنا المصيب واحد فالمخطىء فيها معذور بالاتفاق. وأجيب بأن لفظ هذا يستعمل في الإشارة النوعية أيضا كما مر، وبأن آدم لعله قصر في معرفة القرينة أو عرفها ثم نسي لطول المدة، فلهذا عوتب. وبأن المسألة القطعية لما نسيها صار النسيان عذرا حتى لا يصير الذنب كبيرا، وقد تكون ظنية وترتب التشديدات على الخطأ فيها لأن النبي صلى الله عليه وسلم قد يؤاخذ بما لا يؤاخذ به الأمة. قيل: وقد يحمل الخطأ في الاجتهاد من جهة أن آدم ظن أن المنهي في قوله لا تَقْرَبا تناولهما معا، فيجوز لكل واحد على الانفراد أكله.
فإن قيل: كيف تمكن إبليس من وسوسة آدم مع أن إبليس كان خارج الجنة وآدم فيها؟
قلت: إما لأنه دخل فم الحية خافيا عن الخزنة ولهذا سقطت قوائم الحية عقوبة لها على ما يروى- وإن كان بعيدا- عن أبي هريرة أنه صلى الله عليه وسلم قال: ما سالمناهم منذ حاربناهم، ومن ترك منهم شيئا خيفة فليس منا. يعني الحيات. وإما لأنه دخل الجنة في صورة دابة، وإما لأنهما كانا يخرجان إلى باب الجنة وإبليس كان يقرب من الباب ويوسوس، وإما لأنه كان يدنو من السماء فيكلمهما. وقيل وسوس لهما على لسان بعض أتباعه لأنهما كانا يعرفان ما عنده من الحسد والبغضاء فيستحيل أن يقبلا قوله عادة. وإسناد الإذلال والإخراج إلى الشيطان لأنه حصل بسبب منه، وعن بعض العرفاء أن زلة آدم هب أنها كانت وسوسة إبليس، فمعصية إبليس بوسوسة من؟ ولا بد من الانتهاء إلى الذي لا يسأل عما يفعل. فإن قيل: كيف كانت الوسوسة؟ قلنا: هي التي حكاها الله تعالى ما نَهاكُما رَبُّكُما عَنْ هذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونا مَلَكَيْنِ [الأعراف: 20] فلما لم يفد عدل إلى اليمين وَقاسَمَهُما إِنِّي لَكُما لَمِنَ النَّاصِحِينَ [الأعراف: 21] ولكم من شياطين الإنس تراهم يوسوسون إليك على هذا الترتيب أعاذنا الله منهم. ثم بعد ذلك يحتمل أنهما لم يصدقاه فعدل إلى شغلهما باللذات المباحة حتى استغرقا فيها ونسيا النهي فوقعا فيما وقعا والله أعلم بحقائق الأمور.