الاحتفال بالمولد النبوي الشريف تعبير عن الفرح و السرور بالمصطفي
صلي الله عليه و سلم ولا ينبغي ان تفهم الا ضمن سياق تكريم النبي الاعظم في محبته التي هي من فروض الاسلام اتفاقا بين المسلمين و ما كان يبعث علي المطلوب شرعا فهو مطلوب شرعا
في كل عام تتكرر جدلية المولد بين المانعين والمجيزين وتتكرر الردود وتتغلظ الافئدة ويعلوها الجفاء ... فان ذلك الصراع لم يطوه الزمن .!!
ان شكل الصراع مستند على قاعدتين من قواعد اصول الفقه التي اتفق عليها اهل السنة وهي صراع بين حكم المقاصد وسد الذرائع وهو صراع دائم لا يقبل المهادنة ما دام الاحتمالية (المنع والجواز) قائمة في اسباب وجود المسألة وهي الاحتفال بتكريمه وما تتطرق له الاحتمال بَطُل به الاستدلال!!
ويبقى على المسلم الاختيار بين قوة الادلة وكثرتها وبين من وقف خلف كل قاعدة يدافع عنها ليقوم بتقليد من يثق بديانتهم
والحق ان جمهور اهل السنة هم الذين أجازوا الاحتفال والقلة من متشددي الحنابلة على الاغلب هم من حرموه والحقوه بالبدع..
والصراع قائم ايضا بمن اعتبر البدعة الاضافية انها ضلالة ويمثل هذا الاتجاه الامام الشاطبي وبين من استحسن هذه البدعة الاضافية كون لها اصل في الشرع يستند عليه الدليل ويمثل هذا الاتجاه كثير من العلماء وائمة المذاهب الاربعة المعتبرة لدى اهل السنة وعلى راسهم الحافظ ابن حجر والامام النووي
فسد الذرائع هو التخوف من اشياء قد تلحق بفعل هو اصلا مكروه او حرام فيسدونها بحكمهم بالتحريم ... واستدرك عليهم القائلون بالجواز ان ذلك يتم ضبطه بالشرع ( النواهي و الأوامر) لا تحريمه بالكلية... فانه اولى لانه ليست ممن عمت البلوى به ..لذا يتم التحذير من الوقوع بالمخالفات وتوعية المسلمين بالمخالفات الشرعية سواء كانت مناهي قولية او فعلية ..
والقائلون بان الوسائل لها حكم المقاصد ..فان كان ما قصده الشرع (تكريم وتوقير النبي) مقصد حسن مباح فان اي وسيلة تحقق هذا فانها مندرجة في الحكم خصوصا ان ذلك لم يرد من الشرع بالمنع فالاصل على الاباحة وأن المباح غير مطلوب الفعل ولا مطلوب الاجتناب
قال الامام القرافي (ت684 هـ): وحكمها أي الوسائل كحكم ما أفضت إليه من تحريم أو تحليل)أهـ الديباج المذهب ص62
ولا يشك عاقل ان الاحتفال فيه من المحاسن الكثير ويكفيه ما يقام فيه من يحقق تقوية محبة رسول الله صلى الله عليه وسلم في القلوب، وتعظيمه في النفوس، وزيادة معرفته في العقول، واستحضار شخصيته في الأذهان...
مناقشة اقوالهم :
( لا يجوز إحداث احتفال لها لأن إحداث شيء احتفاء برسول صلى الله عليه وسلم واحتراماً له ولم يرد من الشرع أمر به فإنه لا يجوز لأن مثل هذا عبادة والعبادة تحتاج إلى توقيف من الشرع كما قال النبي عليه الصلاة والسلام (من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد) فمن أحدث في دين الله ما ليس منه فليس له إلا العناء والمشقة وعمله مردود وطريقته ضالة)
الجواب:
- أولا : قوله (هذا عبادة تحتاج الى توقيف من الشرع) : هذا لو سلمنا له ان الاحتفال -مجرد الاحتفال-عبادة !! وهي ليست كذلك كما سأبينه لاحقا:
ان ذلك لم يفهمه السلف على الاطلاق بل ان الشواهد تشير الى قبول زيادة في العبادات - فيما لو اعتبرنا ان الاحتفال عبادة وليس وسيلة الى ذلك- دون ان تجد لها نكيرا من احد او مخالفة من غيرهم فذهبت مذهب الاجماع السكوتي بل ذلك اشبه بما شاع وانتشر بين الصحابة رضي الله عنهم:
1. ثبت عن ابن مسعود وغيره زيادة في التشهد بعد موت النبي ( السلام على النبي...) بدلا من صيغة المخاطبة ( السلام عليك ايها النبي...)
2. زيادة التأذين الاول يوم الجمعة من قبل عثمان رضي الله عنه
أخرج ابن شيبة في "المصنف"عن ابن عمر-رضي الله عنه- قال: [الأذان الأول يوم الجمعة بدعة]اهـ. ... وعن الحسن البصري أنه قال : [النداء الأول يوم الجمعة الذي يكون عند خروج الإمام ،والذي قبل ذلك محدث]اهـ.
3.عن عكرمة أن أبا هريرة كان يسبح كل يوم اثنتي عشرة ألف تسبيحة، يقول: أسبّح بقدر ذنبي, وفي رواية : إني لأستغفر الله وأتوب إليه كل يوم اثني عشر ألف مرة) صحح اسنادهُ الحافظ ابن حجر العسقلاني في الإصابة (4/209)
ولم ترد عن الرسول بهذا العدد المخصوص! ولم ينكر عليه أحد من الصحابة!
4.أخرج أبو داود عن ابن عمر رضي الله عنهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في التشهد: »التحيات لله الصلوات الطيبات السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته ـ قال ابن عمر: زدتُ فيها: (وبركاته) ـ السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، أشهد أن لا إله إلا الله ـ قال ابن عمر: زدتُ فيها: (وحده لا شريك له) ـ وأشهد أن محمداً عبده ورسوله
وهذه الشواهد كلها احدثت بعد موت النبي حتى لا يأتي معترض! ويقول نالت الاقرار منه صلى الله عليه وسلم فصارت سنة !! اما ما احدث في عهده صلى الله عليه وسلم فكثير ومتوافر حتى اصبحت تسمى عند الاصوليين بالسنة التقريرية والتي هي بالأصل بدعة استحسنها الصحابة بدون ائذن منه ونالت الرضى والقبول من الرسول بل رتب عليها ثواب لمن فعلها
- ثانيا : قوله (من أحدث في دين الله ما ليس منه فليس له إلا العناء والمشقة وعمله مردود وطريقته ضالة)
الصحابة زادوا صلاة كاملة بدون ائذن النبي!
قلت وهذا لا يستقيم مع الكم الهائل من الروايات الصحيحة فيما احدثه الصحابة بدون ائذن النبي الكريم بل ان بعض المحدثات لم يعلم بها رسول الله اصلا الا بعد ان اخبره بها الوحي مثل زيادة صلاة الوضوء من بلال رضي الله عنه وهي شاهد جلي على ذلك كما في قصة خبيب بن عدي الذي احدث صلاة قبل القتل ... .
فالظاهر من الروايتين بلا شك ان بلالا و خبيبا احدثوها دون ائذن منه معتمدين على فهمهم لمقصد الاسلام كما استنبطوه من فهمه لرسولهم ...فضلا ان رواية خبيب تؤكد انه مات وهو لا يعلم ان رسول الله سيقبل هذه الزيادة .. كذلك حال بلال ايضا انه لم يدر بخلده ان رسول الله سيردها عليه ويقول عمله مردود وطريقته ضالة!
- ثالثا : هل الاحتفال عبادة!!
اما ما يتخوفه البعض من اعتبار ان الاحتفال عبادة قائمة بذاتها فهو وهم كبير ولو أجروا عليها قوانينهم في التعامل مع الروايات في نفس الباب من احاطة كلاملة للجمع بينها لتبين انها لا تبدو الا كوسيلة لتحقيق عبادة لا يشك بها مسلم وهي اننا نتعبد بحبنا لرسوله الكريم وندين الله على ذلك اتفاقا بين جميع طوائف المسلمين حيث لا يكتمل اصل الايمان بالشهادتين فحسب .. بل كمال الايمان بحبه صلى الله عليه وسلم
«والله لا يؤمن عبد حتى أكون أحب إليه من والده وولده والناس أجمعين»
وفي رواية عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه :(لا والذي نفسي بيده، حتى أكون أحب إليك من نفسك)
(لا يؤمن أحدكم) أي: لا يكمل إيمان أحدكم كما قال الحافظ ابن حجر في الفتح
فكيف يكون النبي احب اليك من نفسك؟! الا بالخُلّة أي: الذي تخللت محبته القلب، فصارت في باطنه، والخُلّة أرفع من المحبة لانها تعني الاتحاد من شدة الحب!! لذلك اكثر الصحابةُ ابو هريرة وابو ذر رضي الله عنهما بقولهم في رواية الأحاديث النبوية : ( أوصاني خليلي.....)
إن صح هذا منهم رضي الله عنه فلعله ذكروه من فرط المحبة, وصدق الوداد معه...قال الحافظ ابن حجر رحمه الله في الفتح: إن الخُلّة لا تلزم وليس شرطا أن تكون من الجانبين, لكنه خارج على طريقة الأدب.
- رابعا : قولهم (لماذا لم يأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالاحتفال بمولده تصريحاً )
فالجواب : لماذا لم يأمر تصريحا باسم من هو الخليفة بعده ؟؟ ...ولماذ لم يأمربجمع القران ؟ ولماذا لم يأمر بالتراويح ؟
فالجواب: مخافة أن يفترض على الأمة: كتركه الجماعة في التراويح لما رأى اجتماع الصحابة...
- خامسا : قولهم ( لم ترد عن الصحابة )
فجمهور اهل السنة ان عدم الورود لا يعني المنع حيث انه في اي مسألة لا يتحقق أن من ورائها مفسدة, بالكلية سالبة, وان تخلّف بعض جزئياتـها فالحكم على الغالب الاعم
- سادسا: قولهم ( اذا كنتم محتفلين ولا بد فصوموا كما صام رسول الله)
فالجواب :جاء في الحديث عن ابي قتاده: ان رسول الله صلي الله عليه و سلم سئل عن صوم يوم الاثنين فقال:( فيه ولدت و فيه انزل علي) و هذا فيه معني الاحتفال به..
ظاهر الرواية ان السؤال حول لماذا خصصت يوم الاثنين بالصيام ؟؟ وكان يتحرى صومه.. فليس المقصود انه كان يصوم الاثنين لمولده وتلقي الوحي فيه..
يؤيد هذا التاويل الرواية الاخرى عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " تعرض الأعمال يوم الاثنين والخميس فأحب أن يعرض عملي وأنا صائم. "
وجمعا بين الحديثين يتقوى لدينا العلة لذلك..فالرسول صامه لانه ترفع الاعمال فيه!! وفرح رسول الله حيث ناسب ذلك يوم مولده
واخيرا وليس اخرا اقول:
هل اجتمع الصحابة لتكريم نبيهم وشكر الله عليه
نقول نعم فقد ثبت في الصحيح من المرويات الحديثية انهم كانوا يجتمعون لشكر الله وامتنانه على ارساله رسوله لهم
روى النسائي بسند صحيح عن أبي سعيد الخدري قال: قال معاوية رضي الله عنه: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج على [ حَلْقَةٍ ] يعني من أصحابه فقال: «ما أجلسكم؟» قالوا: جلسنا ندعو الله ونحمده على ما هدانا لدينه، [ وَمَنَّ عَلَيْنَا بِكَ ]
ولمن يستقبح [الاحتفال بالمولد النبوي] مستدلاً على بدعيته :ان اول من فعله هم الفاطميون ؟ يقصد التشنيع !! لانهم من الشيعة!!
فالجواب : لكن هذا أمر عارض لا يقتضي أن يجعل المشروع ليس بمشروع دائماً...
قال النووي في شرح صحيح مسلم (5/ 264): { الذي عليه أئمة الإسلام أن ما كان مشروعاً لم يترك لمجرد فعل أهل البدع ، لا الرافضة ولا غيرهم }أهـ
وصدق الشاعر حيث قال :
وصدق الشاعر حيث قال :
سأظلُ محتفــــــلًا بمولدِ أحمدِ ... وأقيمـــــــُ أفراحًا بذكرى المولدِ
وسأحتفي وسأحتفي وسأحتفي ... بـربيعِ طــــه ذي الأريج الأجودِ
أنا موقنٌ أن احتفاليَ ســـــــنةٌ ... وبهِ أنـــالُ رضا النبيِّ الأســـعدِ
أنا أبتـغي الدربَ النقيَ مشمرًا ... وبضوءِ طــــه في حياتي أهتدي
أنا قدوتي الأسلافُ من أهل التقى . مَن ذوقهم راقٍ سما في الفرقدِ
أهل الصفا والحبِ سادات الورى َ. أكرمْ بــهم مـن راكعينَ وسُجّدِ
فاتبعْ معي يا صاحبي سفنَ النجا ... دعْ كـلَّ قــولٍ فــاتــنٍ مـتمردِ
صلى إلهُ الكون مولانـــا عــلى ... داعي الهــدى مَـن مثلهُ لم يولدِ
وبهذه المناسبة لا يسعني الا
أن انتهز هذه المناسبة الجليلة واتقدم الى سيدي صاحب الجلالة الهاشمية الملك عبدالله الثاني باسمى ايات الحب والعرفان والى الاسرة الهاشمية بالتهنئة والتبريك لمولد جدهم الاعظم صلى الله عليه وسلم
واتقدم الى جميع السادة الاشراف في العالم بالمباركة لمولده الشريف سائلا ربي ان يعيده عليهم وعلى الامة الاسلامية بما يثلج به صدور قوم مؤمنين من رفعة وسؤدد ووحدة ومنعة ...