مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (106البقرة)
النسخ لغة هو الإزالة، يقال: نسخت الشمس الظل أي أزالته. والنقل أيضا وهو أن يغير الشيء في صفته وحاله مع بقائه في نفسه، ومنه نسخت الكتاب، والمناسخات في المواريث لانتقال التركة من قوم إلى قوم. فقيل مشترك بينهما، وقيل حقيقة في الأول مجاز في الثاني، وقيل بالعكس. وفي الاصطلاح: هو رفع الحكم الشرعي بدليل شرعي متأخر، فيخرج المباح بحكم الأصل إذا ورد الشرع بضده رافعا لإباحته فإنه لا يسمى نسخا إذ ليس رفع حكم شرعي ويخرج أيضا الرفع بالنور والغفلة لأن ذلك الرفع ليس بمجرد الدليل الشرعي وهو
«رفع عن أمتي الخطأ والنسيان»
ونحوه، بل يقتضيه العقل أيضا بخلاف الرفع بنحو
«دعي الصلاة أيام أقرائك»
فإنه لا مجال للعقل فيه. ويخرج الرفع بنحو «صم إلى آخر الشهر» فإن «إلى» أوجبت مخالفة حكم ما بعدها لما قبلها إلا أنها لا تسمى نسخا لأنه ليس متأخرا، ويمكن أن يقال: إن قيد متأخر إنما ينبغي أن يذكر لأن دليل النسخ لا يكون إلا كذلك. ونحو «صم إلى كذا» وأمثاله من أنواع التخصيص متصلا كان أو منفصلا، إنما خرج بقيد الرفع لأن رفع الحكم إنما يكون بعد إرادة حصوله على المكلف، والتخصيص ليس كذلك لأن صورة التخصيص غير مرادة من اللفظ بل التخصيص مبين لمراد الشارع من العام. ونعني بالحكم هاهنا ما يحصل على المكلف بعد أن لم يكن، فإن الوجوب المشروط بالعقل الذي هو مناط التكليف لم يكن حاصلا عند انتفاء العقل والموقوف على الحادث حادث. وإذا كان المراد بالحكم هذا فلا يرد قول المعتزلة الحكم عندكم قديم فكيف يرتفع؟
وذلك أنا عنينا بالحكم تعلق الخطاب بعد ما لم يتعلق وهذا محدث يرتفع. وأيضا نقطع بأنه إذا ثبت تحريم شيء بعد وجوبه انتفى الوجوب الثابت أولا وهو المعنى بالرفع، ويحسن أيضا أن يقال: النسخ بيان انتهاء حكم شرعي بطريق شرعي متراخ، فيخرج بقولنا «شرعي» بيان انتهاء حكم عقلي كالبراءة الأصلية، و «بطريق شرعي» يخرج به بيان انتهاء الحكم الشرعي بطريق عقلي كانتساخ القيام عمن ينكسر رجله. وقولنا «متراخ» ليخرج التخصيص بالغاية. ومن هذا يعلم تعريف الناسخ والمنسوخ، ومعنى بيان انتهاء الحكم أن الخطاب السابق له غاية في علم الله تعالى، فإذا انتهى إلى تلك الغاية زال بذاته، ثم ورد الخطاب اللاحق بيانا لذلك.
المسألة الثانية: انعقد الإجماع من أكثر أرباب الشرائع ومن المسلمين خاصة على جواز النسخ عقلا وعلى الوقوع شرعا، وخالف اليهود في الجواز، وأبو مسلم الأصفهاني من المسلمين في الوقوع لا الجواز. لنا القطع بالجواز ضرورة فإن له تعالى أن يفعل ما يشاء كما يشاء من غير النظر إلى حكمة ومصلحة، وإن اعتبرت المصالح فالقطع أن المصلحة قد تختلف باختلاف الأوقات فهذا ما يدل على جواز النسخ. وفي التوراة أنه أمر آدم بتزويج بناته من بنيه وقد حرم ذلك في شريعة من بعده باتفاق، وهذا ما يدل على وقوعه، وكيف لا وقد ثبت بالدلائل القاطعة والمعجزات الباهرة نبوته محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم، وبصحة نبوته يلزم نسخ شرع من قبله. ولم يكن لليهود والنصارى نص صريح يعلم منه أمد شرعهم على التعيين حتى يلزم أن يكون شرع نبينا انتهاء غاية لا نسخا. حجة اليهود لو نسخت شريعة موسى لبطل قول موسى المتواتر «هذه شريعة مؤبدة عليكم بها ما دامت السموات والأرض» وأيضا إن كان نسخ الحكم الشرعي لحكمة ظهرت له تعالى لم تكن ظاهرة فهو البداء وإلا فعبث وكلاهما محال على الله تعالى، إذ البداء عبارة عن الظهور بعد الخفاء والعبث فعل لا يستتبع غاية. والجواب عن الأول المنع من أنه قول موسى عليه السلام، ويؤكده أنه لو كان هذا القول صحيحا عندهم لقضت العادة بقوله لرسولنا صلى الله عليه وسلم ولحاجوه بذلك، لكن اليهود لم يتمسكوا به في عهده فدل ذلك على أنه إفك افتراه المتأخرون منهم. وعن الثاني بعد تسليم اعتبار المصالح أنها تختلف باختلاف الأزمان والأحوال كمنفعة شرب دواء في حال وضرره في آخر، بل الزمان الممتد من الأزل إلى الأبد قد وزع أجزاؤه فيما لم يزل على الجزئيات الواقعة فيها الصادرة شيئا فشيئا بحسب وقت وقت لا لمصلحة تعود إليه تعالى بل لما هو أصلح بالنسبة إلى المتزمنات. فالظهور والخفاء والسابق واللاحق، والإعدام والإيجاد، كلها بالنسبة إلينا، وأما بالنسبة إلى حضرة الواجب جل ذكره فقد جف القلم بما هو كائن إلى يوم الدين. والحاصل أن كل حكم فله غاية في علم الله تعالى، ولكن قد يظن المكلف استمراره في الاستقبال من قرائن الأحوال، فإذا ورد ما يبين أمده ونص له على زواله فذلك الوارد ناسخ والأول منسوخ والورود نسخ، وكل هذه التجددات بالنسبة إلى المكلف، وأما بالإضافة إليه تعالى فكل من الحكمين موجود في وقته الذي قدر له فيه الظهور متقدما أحدهما ومتأخرا الآخر. وليس هذا في الأحكام فقط وإنما ذلك في كل حادث، فمن تأمل نسخة الوجود ونسب الحوادث المتفاوتة بعضها إلى بعض بالتقدم والتأخر والمعية، وجد وجوداتها المترتبة أشبه شيء بكتاب يقرؤه القارئ سطرا بعد سطر، وكلمة تلو كلمة، إذا انقضى مجموع من ذلك تلاه مجموع آخر حسب ما رتبه الحكيم العليم بمبادئه ومقاطعه، فالمنقضي في حكم المحو، والتالي في حكم الإثبات، والهيئة الاجتماعية بدون اعتبار التلاوة المستلزمة لانقضاء شيء وظهور ما يعقبه هي أم الكتاب، وهذا سر قوله عز من قائل يَمْحُوا اللَّهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ [الرعد: 39] ولك أن تعبر عن المجموع الدفعي بالقضاء وعن ظهوره التدريجي بالقدر وفي هذا القدر كفاية للفطن المستبصر.
المسألة الثالثة: اتفقوا على وقوع النسخ في القرآن بوجوه: أحدها: هذه الآية أعني ما ننسخ من آية. وأجاب أبو مسلم بأن المراد بالآيات المنسوخة الشرائع التي في الكتب القديمة من التوراة والإنجيل كالسبت والصلاة إلى المشرق والمغرب مما وضعه الله عنا وتعبدنا بغيره، فإن اليهود والنصارى كانوا يقولون لا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم، فأبطل الله ذلك عليهم بهذه الآية. وأيضا لعل المراد من النسخ نقله من اللوح المحفوظ وتحويله عنه إلى سائر الكتب. وأيضا إن ما هاهنا يفيد الشرط والجزاء، وكما أن قولك «من جاءك فأكرمه» لا يدل على حصول المجيء بل على أنه متى جاء وجب الإكرام، فكذا هذه الآية لا تدل على حصول النسخ بل على أنه متى حصل النسخ وجب أن يأتي بما هو خير منه وثانيها: الاعتداد بالحول في قوله وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً وَصِيَّةً لِأَزْواجِهِمْ مَتاعاً إِلَى الْحَوْلِ [البقرة: 240] نسخ بأربعة أشهر وعشر في قوله وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً [البقرة: 234] أجاب أبو مسلم بأن الاعتداد بالحول ما زال بالكلية لأنها لو كانت حاملا ومدة حملها حول كامل لكانت عدتها حولا كاملا، وإذا بقي هذا الحكم في بعض الصور كان ذلك تخصيصا لا نسخا. ورد بأن عدة الحمل تنقضي بوضع الحمل سواء حصل وضع الحمل بسنة أو أقل أو أكثر، فجعل السنة مدة للعدة يكون زائلا بالكلية. وثالثها: إِذا ناجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقَةً [المجادلة:
12] منسوخة بالاتفاق، أجاب بأنه زال لزوال سببه، لأن سبب التعبد بها أن يمتاز المنافقون عن المؤمنين. ورد بأنه يلزم منه أن من لم يتصدق كان منافقا وهو باطل، لما روي أنه لم يتصدق غير علي عليه السلام، وبدليل فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ [المجادلة: 13] ورابعها: الأمر بثبات الواحد للعشرة في قوله إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ [الأنفال: 65] ثم نسخ ذلك بقوله الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ [الأنفال: 66] وخامسها: تحويل القبلة. قال أبو مسلم: حكم تلك القبلة ما زال بالكلية لجواز التوجه إليه عند الإشكال، أو مع العلم إذا كان هناك عذر. ورد بأن بيت المقدس وسائر الجهات في ذلك سواء. وسادسها: وَإِذا بَدَّلْنا آيَةً مَكانَ آيَةٍ [النحل: 101] والتبديل يشتمل على رفع وإثبات، والمرفوع إما التلاوة وإما الحكم. وكيفما كان فهو رفع ونسخ، فهذه الدلائل وأمثالها تدل على وقوع النسخ في الجملة. حجة أبي مسلم لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ [فصلت: 42] والجواب أن الضمير للمجموع، وأيضا نسخه بالنسبة إلى المكلف لا ينافي حقيته في نفسه وكونه قرآنا عربيا.
المسألة الرابعة: المنسوخ إما أن يكون هو الحكم فقط كالآيات المعدودة، أو التلاوة فقط كما يروى عن عمر أنه قال: كنا نقرأ آية الرجم «الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة نكالا من الله والله عزيز حكيم
وروي «لو كان لابن آدم واديان من ذهب لابتغى إليهما ثالثا ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب ويتوب الله على من تاب» ،
أو الحكم والتلاوة معا كما روي عن عائشة «كان فيما أنزل عشر رضعات محرمات ثم نسخن بخمس» . فالعشر مرفوع التلاوة والحكم جميعا، والخمس مرفوع التلاوة باقي الحكم.
ويروى أن سورة الأحزاب كانت بمنزلة السبع الطوال أو أزيد ثم وقع النقصان.