النية يتجلى معناها في العزم والتصميم والإرادة؛ وهي الأصل. وارتكازها ومركزها "الاخلاص" الذي هو عين النية؛ فهي من أعمال القلوب، والمراد بها: تمييز جهة التعبد والالتجاء، لذلك فهي شرعاً قصد التقرب الى الله عن طريق القول أو الفعل أو النية، والتي دونها تحبط الاعمال، فهي فاصلة للعمل وفيما يراد به .
وعظمتها يتضح في توقف الأجر عليها؛ وعدم اعتبار الشريعة للأفعال التي وقعت من غير قصد، فهي الحد الفاصل بين حبوط العمل وقبوله، وفسادها محبط لأصل العمل الذي تعبد به؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:( لا أجر لمن لا حسبة له)؛ فالأجر متوقف على النية. ولأنها من أعمال القلوب فإن محلها القلب فلا يجوز التلفظ بها حيث لم ينقل عنه صلى الله عليه وسلم انه تلفظ بها او أحد من الصحابة -رضوان الله عليهم-
وهي مفتاح العبادات كلها؛ وبها يقتضي قبول العمل لأنها الأصل والأعمال الصالحة من توابعها، كون العبادات اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الباطنة والظاهرة فلا بد من استحضار النية عند كل عمل كما في الحديث المتواتر"إنما الأعمال بالنيات"(1) وهي بمثابة كلمة السر الذي به يتم قبول العمل الصالح؛ لذك هي مصححة العمل، وعليها مدار صحته وهو أثر النية ، فكلٌ يعمل وفق ما يعتقد ويرى؛ فالتلازم بين أعمال القلوب وأعمال الجوارح جلي وواضح فِي حَدِيثِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ : «... أَلاَ وَإِنْ فِي الجَسَدِ مُضْغَةً ؛ إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الجَسَدُ كُلُّهُ ، وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الجَسَدُ كُلُّهُ ، أَلاَ وَهِيَ القَلْبُ»؛ وَالحَقِيقَة أَنه لاَ يُمكنُ تَصَوُّرُ صلاحِ القلوب إِلاَّ بِصَلاحِ الأَعْمَالِ ، ولا صلاحِ الأَعْمَالِ إِلاَّ بِصَلاَحِ القُلُوبِ(2)
قال تعالى :
«قل كل يعمل على شاكلته فربكم أعلم بمن هو أهدى سبيلا» [الإسراء : 84] لذلك فإن ارتباطها الوثيق بسلامة المعتقد من باب الشرك في النية يضفي عليها أهمية كبيرة فبدونها الشرك الأكبر. قال الله تعالى : { أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ } (هود : 16)، لأن قاصد الفعل يُظهر أن عمله لله وهو في الباطن قد قصد به غيرَه. والاعمال الصالحة لا تقبل التشريك، فلا بد فيها من الإخلاص الذي هو شرط القبول.
فإخلاص النية بدون صدق العزيمة تطويل أمل وتمنٍ على الله وتسويف في العمل وتفريط فيه:
بالنية المخلصة يبلغ بها العبد للأجر ما لا يبلغ بها العمل ذاته؛ فإن قاصد الفعل الخير يثاب وإن لم يصب المراد، فإذا كانت كذلك فحال وقوعها يشرع بكتابة الأجر وإن لم يتم تنفيذ العمل المقصود بتلك النية؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:(فمن هم بحسنة فلم يعملها كتبها الله عنده حسنة كاملة فإن هم بها فعملها كتبها الله عنده عشر حسنات إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة)(3). فالقاعدة المتفق عليها عند أهل السنة والجماعة: أن الله لا يؤاخذ من نوى أن يعمل سيئة ولم يعملها. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الله تجاوز لأمتي عما حدثت به أنفسها ما لم تكلم به أو تعمل به. على أن الإرادة الجازمة توجب أن يفعل المريد ما يقدر عليه من المراد، ومتى لم يفعل مقدوره لم تكن إرادته جازمة بل يكون هماً (4) لأن من نوى الخير، واقترن بنيته الجازمة سَعْيٌ فيما يقدر عليه، ثم لم يقدر، فإنه ينزل منزلة الفاعل التام.
إن العادات التي لا تفتقر للنية والقصد الصحيح مصحوبة بسلامة المعتقد تصير عبادات يثاب عليها، لأنها تعكس التجرد من الهوى ، وجعل الأَمرِ كلّه للّه تعالى وابتغاء وجهه الكريم بجميع أقواله وأعماله الظاهرة والباطنة، وتمتد أبعاد العبادات بقدر أبعاد النية فيمكن للمسلم ان تصبح حياته كلها عبادة اعتمادا على هذا العمل القلبي وهو النية قال الله تعالى:{ مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ }. قال ابن القيم رحمه الله تعالى : "العارفون بالله عاداتهم عبادات، والعامة عباداتهم عادات .حتى تنقلب مباحاته كلها طاعات فيحتسب نومه وفطره وراحته كما يحتسب قومته وصومه واجتهاده وهو دائما بين سراء يشكر الله عليها وضراء يصبر عليها فهو سائر إلى الله دائما في نومه ويقظنه"(مفتاح دار السعادة)
فصرف النية ابتغاء وجه الله لأي عمل ابتداءً ضرورة لان دعوى حسن النية وحده لا يكفي ولن تعود عليه بالنفع الاخروي؛ بل يجب مع النيّة الإيمان والمتابعة لما جاء به الرسول؛ أي: على وفق السنة ومتابعتها وإلا كان بدعة وحدثا في الدين وشرعا ما لم يأذن الله به؛ فلزوم العمل ان يكون موافقا للشرع لزوم القبول فذلك العمل الصالح المقبول، وبها يكون عبادة ويؤجَرُ عليها، فالمشركون الذين يعبدون الأصنام إنما عبدوها في الغالب بنية التقرب لله فقد قالوا: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر: الآية3] وقالوا: {هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} [يونس الآية: 18] قال الشيخ صالح الفوزان: (فحسن النيّة لا يسوغ العمل غير المشروع، لأن قوم نوح نيّتهم حسنة، عندما صوّروا الصور يريدون النشاط على العبادة، وتذكر أحوال هؤلاء الصالحين، ولا قصدوا الشرك أبداً، وإنما قصدوا مقصداً حسناً، لكن لما كان هذا الأمر بدعة صار محرّماً لأنه يُفضي إلى الشرك ولو على المدى البعيد، فالنية الحسنة لا تسوغ العمل غير المشروع)(5).
وفي الهدي المحمدي ما يؤكد ان قبول الاعمال مرده الى النية التي محلها القلب وإليك بيان نماذج من ذلك:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
مثل هذه الأمة كمثل أربعة نفر:
رجل آتاه الله مالا وعلما فهو يعمل بعلمه في ماله ينفقه في حقه
ورجل آتاه الله علما ولم يؤته مالا وهو يقول لو كان لي مثل هذا عملت فيه بمثل الذي يعمل
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
فهما في الأجر سواء
ورجل آتاه الله مالا ولم يؤته علما فهو يخبط في ماله ينفقه في غير حقه
ورجل لم يؤته الله علما ولا مالا وهو يقول لو كان لي مثل هذا عملت فيه مثل الذي يعمل
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
فهما في الوزر سواء (6)
فأثيب ذو النية الصالحة بثواب العمل الصالح وهو لم يعمله، وتحمل الوزر صاحب النية الفاسدة بوزر صاحب العمل الفاسد وهو لم يعمله، وكان مرد ذلك إلى النية وحدها
في الصحيحين عن أبي بكرة رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم قال : - « إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار " قالوا يا رسول الله : هذا القاتل فما بال المقتول ؟ قال : " إنه كان حريصا على قتل صاحبه »(7)
فأثبت هنا فعل الحرص المتولد عن الارادة والتصميم المنبثق أصلا من النية
عن أم سلمة رضي الله تعالى عنها مرفوعا « إنه يستعمل عليكم أمراء فتعرفون وتنكرون فمن كره فقد برئ ، ومن أنكر فقد سلم ، ولكن من رضي وتابع » وفي رواية غير الصحيح بعد وتابع « فأولئك هم الهالكون ».(8)
والشاهد في هذا ( من كره بقلبه وأنكر بقلبه). ومن كره : أي ولم يقدر على ذلك ولكن أنكر بقلبه وكره ذلك. فقد سلم : أي من مشاركتهم في الوزر والإثم .
فهذا ما حضرني في هذه الفائدة، فإذا كان صوابا - كما أرجو - فهو فضل من الله ونعمة وإن كان خطأ فهو من نفسي ومن الشيطان؛ والله تعالى أسأل أن يغفره لي وسائر ذنوبي، وكل ما لا يرضيه، وأن يسدد خطاي لما يحب ويرضى، والله تعالى أسأل أن يعصمنا وإياكم من الزلل.
اللهم إنك عفوٌّ تحبُّ العفو؛ فاعف عني.
اللهم من اعتز بك فلن يذل
ومن اهتدي بك فلن يضل
ومن اسكثر بك فلن يقل
ومن استقوي بك فلن يضعف
ومن استغني بك فلن يفتقر
ومن استنصر بك فلن يخذل
ومن استعان بك فلن يغلب
ومن توكل عليك فلن يخيب
ومن جعلك ملاذه فلن يضيع
ومن اعتصم بك فقد هدي الي صراط مستقيم
اللهم فكن لنا وليا ونصيرا وكن لنا معينا ومجيرا انك كنت بنا بصيرا
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين
زياد أبو رجائي
الاول من رمضان 1432هـ/ 2011م
تم المزيد والتنقيح 7 رمضان
(1) رواه الشيخان
(2) مقال للشيخ علي الحلبي في قسم مسائل الايمان من هنا
(3) رواه البخاري ومسلم، انظر حديث رقم : 1796 في صحيح الجامع
(4) جامع الرشائل لشيخ الاسلام ابن تيمية
(5) انظر كتاب إعانة المستفيد بشرح كتاب التوحيد للشيخ صالح الفوزان 1/269
(6) رواه ابن ماجه الزهد 2 / 1413 رقم 4228 وأحمد 4 / 230 ورواه الترمذي الزهد 4 / 487 رقم 2325 وهو صحيح
(7) رواه البخاري (كتاب الإيمان 1 / 84) رقم 31 ومسلم (كتاب الفتن 4 / 2213) رقم 2888
(8) رواه مسلم ( الإمارة 1 / 1481) رقم 1855