ذَهَبَ [ الأَشعريُّ ] وأَكثرُ أَصحَابِهِ إِلَى أَنَّ القدرةَ علَى الفِعْلِ لاَ تَصْلُحُ لِلضِّدَّيْنِ؛ لاستحَالةِ اجتمَاعِهِمَا، فَاستطَاعةُ الإِيمَانِ توفِيقٌ وَاستطَاعةُ الكُفرِ خِذْلاَنٌ، ولاَ تَصْلُحُ إِحْدَاهُمَا لِمَا تصلحُ لَهُ الأُخْرَى. خلافا المُعْتَزِلَةُ: تصلحُ لهمَا
يَلْزَمُ المعتزلة الاستغنَاءُ عَنْ تجديدِ الإِمدَادِ، وهو مُحَالٌ، وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ ـ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وسَلَّمَ ـ: (وأَنَا علَى عَهْدِكَ وَوَعْدِكَ مَا اسْتَطَعْتُ) فأَشَارَ إِلَى أَنَّهُ لاَ يَسْتَغْنِي عَنْ رَبِّهِ طَرْفَةَ عَيْنٍ؛ لافْتِقَارِهِ إِلَى استطَاعةٍ يَخْلُقُهَا اللَّهُ تَعَالَى عِنْدَهُ، وفِي التَّنْزِيلِ {فَضَلُّوا فَلاَ يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً} فَدَلَّ علَى أَنَّ استطَاعةَ الهُدَى لاَ تصلحُ لِلضلاَلِ. فالاستطَاعةَ مَعَ الفعلِ عند اهل السنة لا قبله كما تقل المعتزلة
وحقيقةِ العَجْزِ؛ فقَالَ المتكلمون: هو صِفَةٌ وُجُودِيَّةٌ قَائمةٌ بِالعَاجزِ ـ تُضَادُّ القدرةَ، وَالتقَابُلُ بَيْنَهُمَا تقَابُلُ الضِّدَّيْنِ
قال تاج الدين السبكي في جمع الجامع ك لَمَّا لَمْ يَكُنْ لِلْعَبْدِ تَأْثِيرٌ بِقُدْرَتِهِ وأَنَّ القدرةَ فِي الحَقِيقَةِ لِلَّه تعَالَى لَزِمَ مِنْهُ امتنَاعُ وُقُوعِ الفِعْلِ مِنْ قَادِرَيْنِ، وأَنَّ الْعَجْزَ ضِدُّ القدرةِ، ولَمَّا انْتَفَى عَنِ العَبْدِ تَأْثِيرُ الْقُدْرَةِ ثَبَتَ لَهُ الْعَجْزُ.
فُإِنَّهُ إِذَا عُلِمَ أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ الْعَبْدَ وأَفعَالَهَ وأَرْسَلَ الرُّسُلَ بِالشّرَائعِ، وأَخْفَى عَنِ العبَادِ مَا عَلِمَهُ مِنْ أَحوَالِهم؛ فَمَنْ سَبَقَ لَهُ فِي عِلْمِهِ السّعَادةُ يَسَّرَهُ لِلطَّاعَةِ، ومَنَعَ مَنْ سَبَقَ لَهُ فِي عِلْمِهِ الشَّقَاوةُ مِنَ الطَّاعةِ، وَالأَعمَالُ بِالخوَاتِيمِ ومبنَاهَا علَى السَّابقةِ؛
فَالشّريعةُ خطَابُهُ عبَادَهُ بِتكَاليفِهِ،
وَاْلحقيقةُ تَصَرُّفُهُ فِي خَلْقِهِ كَيْفَ يشَاءُ،
وَقَدْ اجْتَمَعَ الأَمرَانِ فِي قَوْلِهِ تعَالَى: {لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ ومَا تَشَاؤُونَ إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ العَالَمِينَ} فَالحَقِيقَةُ بَاطِنُ الشّريعةِ، ولاَ يُغْنِي بَاطِنٌ عَنْ ظَاهرٍ، ولاَ ظَاهِرٌ عَن بَاطِنٌ.