الغناء او الانشاد او السماع كما هو في لغة الفقه.....
يعتمد المانعون على اية : {ومن الناس من يشتري لهو الحديث ليضل عن سبيل الله بغير علم ويتخذها هزوا} ويلحقون بها أثرا اخرجه الطبراني عن الصحابي ابن مسعود رضي الله عنه حول تفسيره لمعنى اللهو المذكورة في الاية انه اقسم انها الغناء .. ويتغافلون عن تفاسير اخرى للسلف على الرغم ان الامام ابن حجر ضعف هذا الاثر ..
أولا: ما دامت لفظ "اللهو" يحتاج الى ايضاح ما يبهم فيه كون هذا المفهوم مرنا ومفتوحا على اكثر من معنى او فهم ويخضع لقاعدة المفهوم لانها تخلو من منطوق صريح
ثانيا : التاويل يجب ان يكون مداره كأولوية من داخل النص ولا يجوز حمل المعنى على مرويات حديثية ضعيفة وتخالف ذات النص من خارجه ما دام فيها قرائن تبيح فهم النص بجلاء ووضوح
ثالثا : كما لا يجوز تقويل النبي عليه صلى الله عليه وسلم ما لم يقل فكذلك لا يجوز أن يهدر ما قاله او يتغافل عنه نصرة لرأي او فتوى او اجتهاد شخصي... والا اصبح من باب التعطيل....
رابعا : كذلك لا ينبغي استبعاد حديث اعتقد أحدهم انه ضعيف بيد انه يشبه الحسن في اصطلاح الترمذي !! - مثلا- قال الحافظ ابن عبد البر في التمهيد 1 / 58:والحديث الضعيف لا يرفع أي: لا يهمل وإن كان لم يحتج به ورب حديث ضعيف الإسناد صحيح المعنى
مثل:
(1) نقل الامام ابن كثير في تفسيره : قال الضحاك في قوله تعالى : ( ومن الناس من يشتري لهو الحديث ) يعني : الشرك . وبه قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم ; واختار ابن جرير أنه كل كلام يصد عن آيات الله واتباع سبيله
(2) روى ابن ماجة رحمه الله عن ايي أمامة أنه فسر الاية بخلاف ما فسره عبدالله بن مسعود رضي الله عنهما
قال رسول الله : " لا تبيعوا القينات و لا تشتروهن ، و لا تعلموهن ، و لا خير في تجارة فيهن ، و ثمنهن حرام ، و في مثل هذا أنزلت هذه الآية : *( و من الناس من يشتري لهو الحديث ليضل عن سبيل الله ) السلسلة الصحيحة للالباني 6 / 1015 حديث 2922
وان كان تم تضعيفه فانه يصلح للشواهد
(3) علق القاضي الاشبيلي المالكي على شرح الحديث هذا في شرحه لموطأ الامام مالك بقوله ضعيف من جهة علي بن يزيد / قال: وليس الغناءُ بحرامٍ، فإنَّ النّبيّ -عليه السّلام- سمعه في بيته وبيت غبره، وقد وقف عليه في حياته
(4) الامام ابن حجر ضعف اثر بن مسعود عن تفسيره للاية انها : الغناء وقال:وفي سنده ضعف .. ثم ذكر عن الامام ابن بطال قوله : كأنه رمز إلى ضعف ما ورد في تفسير اللهو في هذه الآية بالغناء .!!
(5) ذكر السمعاني في تفسيره : َعَن سهل بن عبد الله التسترِي قَالَ: لَهو الحَدِيث هُوَ الْجِدَال فِي الدّين، والخوض فِي الْبَاطِل.
(6) الشيخ عبدالرحمن السعدي-رحمه الله- في تفسيره أجمل لفظ "اهو الحديث" ولم يقتصره على الغناء : اي: الأحاديث الملهية للقلوب، الصادَّة لها عن أجلِّ مطلوب. فدخل في هذا كل كلام محرم، وكل لغو، وباطل، وهذيان من الأقوال المرغبة في الكفر، والفسوق، والعصيان، ومن أقوال الرادين على الحق، المجادلين بالباطل ليدحضوا به الحق، ومن غيبة، ونميمة، وكذب، وشتم، وسب، ومن غناء ومزامير شيطان، ومن الماجريات الملهية، التي لا نفع فيها في دين ولا دنيا.أهـ
التزم القران الكريم في تبيان الحق دائما وتكاثرت الايات في التنبيه على ذلك : مصداقاً لقوله تعالى،(وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ) وقال: (أَنَزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلاً)و قال: (قَدْ فَصَّلْنَا الآيَاتِ)و (فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلا)
وما حملت من أمر رباني جليل وعظيم
والشاهد هنا ان القران كان صريحا في اظهار العلة للتحريم فلا ينبغي التأويل عندئذ ولا في اجتهادات في وجود نص صريح من القران
فالاية تحصر "اللهو" بالحديث ثم باضلال الناس عن سماع الحق ثم بالاستهزاء بحديث القران .. كما اظهرت ذلك نصوص اسباب التنزيل
(1) قال ابن حجر رحمه الله في فتح الباري :(وذكر بن بطال أن البخاري استنبط تقييد اللهو في الترجمة من مفهوم قوله تعالى ليضل عن سبيل الله فإن مفهومه أنه إذا اشتراه لا ليضل (فانه) لا يكون مذموما وأنه إذا لم يشغله اللهو عن طاعة الله لا يكون باطلا )
(2) ذكر في حاشية السندي على ابن ماجه:الحديث يدل على أن اتخاذ الغناء (عادة..!!) اي :المداومة عليه.. مذموم والله أعلم
وان كانت " العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب " لايات القران الكريم إلا إن هذه القاعدة لا ينبغي ان تكون على الاطلاق !! يجب أن تراعي حيثيات الحدث من كونه حدثا ضمن زمان معين وقراءة الواقع انذاك واسقاطه عليه من حيث الضرورة لفهم سياق الايات وإلا ما فائدة تنزيل الاية او الايات في ذلك الحدث المشمول في الزمان والمكان .. وكان بالامكان تنزيل القران دفعة واحدة من الله عز وجل لاتمام رسالة الاوامر والنواهي التي لا تحتاج الى مناسبة لذلك... فان الحكمة المنطقية من انزال القران الكريم حسب المناسبات تقتضي الاخذ بالمناسبة زمانيا ومكانيا ولا يتجاوز عنها عند التاويل لايات ذوات المفهوم بخلاف ايات ذوات المنطوق التي عادة تقيد الحكم بالفاظ صريحة والتي لا نختلف عليها في امرها او نهيها مهما تعددت الاسباب ..!!
قراءة بلاغية للاية:
(1) استخدام اسلوب الانشاء الخبري بدلا من فعل الامر
هذا الاسلوب بلا شك يوحي بتراخي شدة التحذير والنهي كونه يخلو من التصريح بالنهي . و قرينة "عذاب مهين" تختص وترتبط "بـ"مِنَ" التبعيضية في الخبر المقدم وتشهد لها قراءة فتح ياء المضارع في لـ"يَضل" هو
لا يمكن انزال معنى الانشاء كـ"الخبر" المصرح به في الاية الكريمة بمنزلة استخدام الفعل المباشر في مفهوم الطلب، وذلك لسبب بسيط ان القران لا يوجد فيه "مجاملة" كونه كلام رب العالمين لأحد من العباد لكي يوجه لهم الامر مباشرة باستخدام اقوى صيغة امر وهي فعل الامر المباشر او استعمال اسم فعل الامر في النهي والامر..ألا يسترعي ذلك الانتباه!! ان ذلك يضعف معنى الطلب الالزامي ثم الحاق العلة القائمة في عقب الخبر صريحة يؤذن في هذا المفهوم ويخفف من حدة التحذير كما سيأتي لاحقا من قرائن بلاغية تصرفه الى ذلك
(2) لام العاقبة و التعليلية
استخدم اسلوب الشرط (من يشتري) والتعبير في جواب الشرط بلام ( لـ يضلوا) لا يخلو من اثارة على اختلاف القراءات بين فتح الياء (ليَضل) هو نفسه والمقصود النضر بن الحارث وضمها(ليُضل) غيره .
• ان كانت عاقبة فانه تعني أن مآل من يشتري لهو الحديث هو اضلال العباد وصده عن الحديث النافع؛ وزاد في شرحها للاستهزاء بكلام الله
• ان كانت لتعليل وهي علة واضحة في وصفه لهو الحديث
(3) و"من" التبعيضية وهذا يستلزم ان بعضا اخرا لا يتخذها للاضلال او الاستهزاء فانتفت الصورة عن اولئك بالوعيد!
بقي ان نذكر سبب النزول .. ليتم فهم الاية جيدا:
نزلت فِي النَّضر بن الْحَارِث بن كلدة، وَكَانَ يَأْتِي الْحيرَة فيشتري أَحَادِيث الْعَجم، وَكَانَ النَّبِي إِذا قَرَأَ الْقُرْآن، قَامَ وَقَالَ: أَيهَا النَّاس إِن مُحَمَّدًا يحدث عَن عَاد وَثَمُود، وَأَنا أحدثكُم عَن رستم واسفنديار والعجم، فَأَنا أحسن حَدِيثا مِنْهُ، فَأنْزل الله تَعَالَى فِيهِ هَذِه الْآيَة.
كتبه: زياد أبو رجائي