وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (الحجر:26)
خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ (الرحمن:14)
يذكر تعالى نعمته وإحسانه على أبينا آدم عليه السلام ، فالمراد بالإنسان آدم عند الجمهور، قال ابن كثير : « مقصود الآية: التنبيه على شرف آدم، عليه السلام، وطيب عنصره، وطهارة مَحْتده (1)» ، والشاهد قوله تعالى :« لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ (التين:4)» ، ولا شك ان الله تبارك وتعالى كرم الانسان وفضله على سائر الخلق : « وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ ..... وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا (الإسراء:70)»
اختلفت كلمة الصلصال في القرآن الكريم في اضافتها إلى وصفين ، واتفقت في كونها مادة طينية فقد أوضحها ربنا عز وجل في قوله : «وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ (المؤمنون:12) » وزاد في بنائية المعنى بأن أضافها إلى لفظ « لازب » أي: لازق ، ثم بين أصل الطين من تراب بقوله :« وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ (فاطر:11) . فمرة أضاف سبحانه وتعالى قوله الصلصال إلى « الحمأ المسنون » ومرة أخرى تمت الإضافة إلى « الفخار » ، فهل ذلك يعني أنهما - الفخار والحمأ - من جنس واحد وأن بينهما لفظاً مشتركاً ، أم أن اللفظين يبتعدان في ترادفهما. وإنْ اختلف أهل التأويل في معنى الصلصال، فقال بعضهم: هو الطين اليابس لم تصبه نار، فإذا نقرتَه صَلَّ فسمعت له صلصلة ، فعن قتادة؛ قال: والصلصال: التراب اليابس الذي يسمع له صلصلة. وعن ابن عباس- رضي الله عنهما - قال: الصلصال: الماء يقع على الأرض الطيبة ثم يحسَرُ عنها، فتشقق، ثم تصير مثل الخَزَف الرقاق.وهو التراب اليابس الذي يُبَل بعد يُبسه . وعن مجاهد، قال: الصلصال: الذي يصلصل، مثل الخَزَف من الطين الطيب. أما الضحاك، يقول: الصلصال: طين صُلْب يخالطه الكثيب.
أما من وجه قول صلصال إلى أنه فعلال من قولهم صلّ اللحم: إذا أنتن وتغيرت ريحه ، فقد أبعد النجعة ، أولاً : إن وصف الصلصال بالطين قد ورد ذكره في سورة «المؤمنون:12» . قال الطبري في تفسيره : « والذي هو أولى بتأويل الآية أن يكون الصلصال في هذا الموضع الذي له صوت من الصلصلة، وذلك أن الله تعالى وصفه في موضع آخر فقال( خَلَقَ الإنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ ) فشبهه تعالى ذكره بأنه كان كالفخَّار في يُبسه. ولو كان معناه في ذلك المُنتِن لم يشبهه بالفخارِّ، لأن الفخار ليس بمنتن فيشبَّه به في النتن غيره.»
وثانياً : أصله كما قال الراغب تردد الصوت من الشيء اليابس . قال أبو عبيدة : هو الطين المخلوط بالرمل الذي يتصلصل إذا حرّك ، فإذا طبخ في النار فهو الفخار . وهذا قول أكثر المفسرين
وأما قوله( مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ ) فإن الحمأ: جمع حَمْأة، وهو الطين المتَغيِّر إلى السواد. وقوله(مَسْنُونٍ) يعني: المتغير. قال ابن السكيت : تقول منه . حمأت البئر حمأ بالتسكين : إذا نزعت حمأتها ، وحمئت البئر حمأ بالتحريك : كثرت حمأتها ، وأحميتها إحماء : ألقيت فيها الحمأة . قال الليث الحمأة بوزن فعلة ، والجمع الحمأ وهو الطين الأسود المنتن . وقال أبو عبيدة والأكثرون حماة بوزن كمأة
واختلف أهل العلم بكلام العرب في معنى قوله(مَسْنُونٍ) فكان بعض نحويِّي البصريين يقول: عني به: حمأ مصورّ تامّ. وذُكر عن العرب أنهم قالوا: سُنّ على مثال سُنَّة الوجه: أي صورته. قال: وكأن سُنة الشيء من ذلك: أي مثالَه الذي وُضع عليه. قال: وليس من الآسن المتغير، لأنه من سَنَن مضاعف.
وقال آخر منهم: هو الحَمَأ المصبوب. قال: والمصبوب: المسنون، وهو من قولهم: سَنَنْت الماء على الوجه وغيره إذا صببته.
وكان بعض أهل الكوفة يقول: هو المتغير، قال: كأنه أخذ من سَنَنْت الحَجَر على الحجر، وذلك أن يحكّ أحدهما بالآخر، يقال منه: سننته أسنُه سَنًّا فهو مسنون. قال: ويقال للذي يخرج من بينهما: سَنِين، ويكون ذلك مُنْتنا. وقال: منه سُمِّيَ المِسَنّ لأن الحديد يُسَنُّ عليه.
قال أبو عبيدة والأخفش : المسنون المصبوب ، والسن والصب يقال سن الماء على وجهه سناً . وقال سيبويه : المسنون المصور على صورة ومثال ، من سنة الوجه وهي صورته ، فإذا جمعنا قوليهما يكون المسنون بمعنى : الطين المصبوب على هيئة ومثال وصورة آدم وهي صورة : « أحسن تقويم »، فتبارك الله احسن الخالقين .
وعن ابن عباس رضي الله عنهما أنه لما ساله نافع بن الأزرق عن معنى المسنون وأجابه بأن معناه المصور قال له : وهل تعرف العرب ذلك؟ فقال له ابن عباس : نعم ، أما سمعت قول حمزة بن عبد المطلب رضي الله عنه وهو يمدح رسول الله صلى الله عليه وسلم :
أغر كأن البدر سنة وجهه ... جلا الغيم عنه ضوءه فتبددا
عن ابن عباس، قال: خلق الله آدم من طين لازب، واللازب: اللَّزِج الطيب من بعد حمأ مسنون مُنْتن.
أما « الفخار » : كالشيء المنفرج الذي ليس بمصمت.
قال الأخفش : المسنون : المنصوب القائم ، من قولهم : وجه مسنون إذا كان فيه طول . والحاصل على هذه الأقوال أن التراب لما بلّ ، صار طيناً ، فلما أنتن صار حمأً مسنوناً ، فلما يئس صار صلصالاً . فأصل الصلصال : هو الحمأ المسنون ، ولهذا وصف بهما . فطريقُ الجمع أنه جعل التُّرابَ طيناً ، ثم تركه حتَّى صار حمأ مسنوناً ، ثم خلقه منه ، وتركه حتى جفّ ، ويبس وصار له صلصلة .
عند من يجهل التفسير ينقض بعضه بعضا وليس بمنتقض ؛ فشكوا في القرآن وقالوا هذا ملابسة ينقض بعضه بعضاً ، قال الشنقيطي - رحمه الله - : « إذا عرفت هذا فاعلم أن الله جل وعلا أوضح في كتابه أطوار هذا الطين الذي خلق منه آدم فبين أنه أولاً تراب ، ثم اشار إلى ان ذلك التراب بل فصار طيناً يعلق بالأيدي في مواضع أخر ، وبين أن ذلك الطين أسود وأنه متغير ، وبين أيضاً أنه يبس حتى صار صلصلاً اي تسمع له صلصة من يبسه».
والعلم عند الله تعالى .
----------------------------------------------------
(1) صحيح مسلم برقم (2996) من حديث عائشة، رضي الله عنها