إن مفهوم التأويل بين صرف المعنى عن ظاهره إلى الحقيقة التي يؤول إليها الكلام هو مدار حديثنا هذا ، فرحلة التاويل بين صرف المعنى عن ظاهره إلى الخقيقة التي تؤول إليها اللفاظ وبين فإن اصطلاح التأويل الذي هو : أنه صرف اللفظ عن ظاهره ، لذلك عندما تسلط المحرفون على النصوص قالوا : نحن نتأول! ما يخالف قولنا فسموا التحريف : تأويلاً وكان يقصدون تزيينا له وزخرفة ليقبل ويصبح مستساغا لدى كثير من العوام ، ومع أن الله ذم الذين زخرفوا الباطل قال تعالى : [وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الإِنْسِ وَالجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ القَوْلِ غُرُورًا] {الأنعام:112} .
وكما هو معلوم أن العبرة للمعاني لا للألفاظ فكم من باطل قد أقيم عليه دليل مزخرف عورض به دليل الحق . ومن الأمثلة التي سموها – بعض المناطقة وأهل الكلام – القول على الله بلا علم وبناء المعاني على تحريفات قد تجد لدى العقلانيين من يساندها ، غير أنها لا تستند لدليل راجح من الكتاب والسنة وإنما مرادها التأويلات الفاسدة المبتدعة المخالفة لمذهب السلف التي يدل الكتاب والسنة على فسادها وترك القول على الله بلا علم ، وهي تأويل أدلة الرؤية وأدلة العلو وأنه لم يكلم موسى تكليما ولم يتخذ إبراهيم خليلا !،وتأويل الصفات الإلهية .
وأعرض بعض من تدرجات اصطلاح التأويل وتغايره فقد صار لفظ التأويل مستعملا في غير معناه الأصلي :
1- التأويل في كتاب الله وسنة رسوله : هو الحقيقة التي يؤول إليها الكلام فتأويل الخبر : هو عن المخبر به وتأويل الأمر : نفس الفعل المأمور به كما قالت عائشة رضي الله عنها : «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في ركوعه : سبحانك اللهم ربنا وبحمدك اللهم اغفر لي يتأول القرآن » ،وقال تعالى : [هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالحَقِّ] {الأعراف:53} ، ومنه تأويل الرؤيا وتأويل العمل كقوله : { وَقَالَ يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا] {يوسف:100}
2- وقوله : [وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلَى آَلِ يَعْقُوبَ ] {يوسف:6} }
وقوله : { ذلك خير وأحسن [وَأَوْفُوا الكَيْلَ إِذَا كِلْتُمْ وَزِنُوا بِالقِسْطَاسِ المُسْتَقِيمِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا] {الإسراء:35}
وقوله :[قَالَ هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا] {الكهف:78} .
فمن ينكر وقوع مثل هذا التأويل والعلم بما تعلق بالأمر والنهي منه ؟ وأما ما كان خبرا كالإخبار عن الله واليوم الآخر فهذا قد لا يعلم تأويله الذي هو حقيقته إذ كانت لا تعلم بمجرد الإخبار فإن المخبر إن لم يكن قد تصور المخبر به أو ما يعرفه قبل ذلك - لم يعرف حقيقته التي هي تأويله بمجرد الإخبار وهذا هو التأويل الذي لا يعلمه إلا الله لكن لا يلزم من نفي العلم بالتأويل نفي العلم بالمعنى الذي قصد المخاطب إفهام المخاطب إياه فما في القرآن آية إلا وقد أمر الله بتدبرها وما أنزل آية إلا وهو يحب أن يعلم ما عنى بها وان كان من تأويله ما لا يعلمه إلا الله فهذا معنى التأويل في الكتاب والسنة وكلام السلف وسواء كان هذا التأويل موافقا للظاهر أو مخالفا له
2- أما التأويل في كلام كثير من المفسرين كابن جرير وابن كثير ونحوه يريدون به تفسير الكلام وبيان معناه سواء وافق ظاهره أو خالف وهذا اصطلاح معروف وهذا التأويل كالتفسير يحمد حقه ويرد باطله - وقوله تعالى : { وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي العِلْمِ يَقُولُونَ آَمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الأَلْبَابِ] {آل عمران:7} فيها قراءتان قراءة من يقف على قوله ( إلا الله ) وقراءة من لا يقف عندها وكلتا القراءتين حق ويراد بالأولى المتشابه في نفسه الذي استأثر الله بعلم تأويله ويراد بالثانية المتشابه الإضافي الذي يعرف الراسخون تفسيره وهو تأويله ولا يريد من وقف على قوله ( إلا الله ) أن يكون التأويل بمعنى التفسير للمعنى فإن لازم هذا أن يكون الله أنزل على رسوله كلاما لا يعلم معناه جميع الأمة ولا الرسول ويكون الراسخون في العلم لا حظ لهم في معرفة معناها سوى قولهم : { آمنا به كل من عند ربنا } وهذا القدر يقوله غير الراسخ في العلم من المؤمنين والراسخون في العلم يجب تمتيازهم عن عوام المؤمنين في ذلك وقد قال ابن عباس رضي الله عنهما : أنا من الراسخين في العلم الذين يعلمون تأويله ولقد صدق رضي الله عنه [ فإن النبي صلى الله عليه وسلم دعا له وقال : اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل ] رواه البخاري وغيره ودعاؤه صلى الله عليه وسلم لا يرد قال مجاهد : عرضت المصحف على ابن عباس من أوله إلى آخره أقفه عند كل آية وأسله عنها وقد تواترت النقول عنه أنه تكلم في جميع معاني القرآن ولم يقل عن آية إنها من المتشابه الذي لا يعلم أحد تأويله إلا الله
والمتشابه : الحروف المقطعة في أوائل السور ويروى هذا عن ابن عباس مع أن هذه الحروف قد تكلم في معناها أكثر الناس فإن كان معناها معروفا فقد عرف معنى المتشابه وإن لم يكن معروفا وهي المتشابه كان ما سواها معلوم المعنى وهذا المطلوب
وأيضا فإن الله قال : { منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات } وهذه الحروف ليست آيات عند جمهور العادين
4- وأصبح التأويل في كلام المتأخرين : هو صرف اللفظ عن الإحتمال الراجح إلى الإحتمال المرجوح لدلالة توجب ذلك وهذا هو التأويل الذي تنازع الناس فيه في كثير من الأمور الخبرية والطلبية فالتأويل الصحيح منه : الذي يوافق ما دلت عليه نصوص الكتاب والسنة وما خالف ذلك فهو التأويل الفاسد .وذكر في التبصرة أن نصير بن يحيى البلخي روى عن عمرو بن إسماعيل بن حماد بن أبي يحيى بن محمد بن الحسن رحمهم الله : أنه سئل عن الآيات والأخبار التي فيها من صفات الله تعالى ما يؤدي ظاهره إلى التشبيه ؟ فقال : نمرها كما جاءت ونؤمن بها ولا نقول : كيف وكيف ويجب أن يعلم أن المعنى الفاسد الكفري ليس هو ظاهر النص ولا مقتضاه وأن من فهم ذلك منه فهو لقصور فهمه ونقص علمه
كيف يقال في قول الله الذي هو أصدق الكلام وأحسن الحديث وهو الكتاب [أُحْكِمَتْ آَيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ] {هود:1}
إن حقيقة زخرف قولهم ظاهره الضلال وإنه ليس فيه بيان ما يصلح من الإعتقاد ولا فيه بيان التوحيد والتنزيه ؟ ! هذا حقيقة قول المتأولين والحق أن ما دل عليه القرآن فهو حق وما كان باطلا لم يدل عليه والمنازعون يدعون دلالته على الباطل الذي يتعين صرفه !