حتى ندير الحوار الذي يبسط هذه المسألة ، لا بد بداية أن نظهر قولي اهل السنة في هذه المسالة الفقهية وهي :
1- مشروعة للرجال ، محرمة للنساء
2- مشروعة للجنسين ، الرجال والنساء مع التنبيه على ضابط عدم الإكثار والضوابط العامة للنساء كعدم التبرج والنياحة والخروج بقصد للمقابر.
ولإدارة هذا الإختلاف الفقهي في هذه المسألة ، كان هذا الحوار بين من رأى الحكم الفقهي الأول وبين من رأى الحكم الفقهي الثاني ، ودونك الحوار فتامل :
المانع : إنها محرمة للنساء والشاهد :
جاء نهي النبي صلى الله عليه وسلم عنه من رواية عبد الله بن عباس وأبي هريرة وحسان بن ثابت رضي الله عنهم . أما حديث ابن عباس فقد روى أحمد وأصحاب السنن والبزار وابن حبان والحاكم من رواية أبي صالح عن ابن عباس رضي الله عنهما :" أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لعن زائرات القبور"
فهذه الروايات تدل على تحريم زيارة القبور على النساء ، فإن لعنة الشارع على الفعل من أدل الدلائل على تحريمه .
المجيز : مباحة للنساء ومحرمة على المكثرات من الزيارة والشاهد ذكر صيغة المبالغة في :
حديث أبي هريرة رضي الله عنه ، فروى أحمد والترمذي وقال حسن صحيح وابن ماجه وابن حبان في صحيحه من حديث عمر بن أبي سلمة بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي هريرة :" أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لعن زوارات القبور" وأما حديث حسان بن ثابت رضي الله عنه فروى أحمد وابن ماجه والحاكم عن حسان بن ثابت رضي الله عنه أنه قال: " لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم زوارات القبور" .
المانع : التعبير في هذه الرواية بزائرات القبور يدل على عدم تخصيص النهي بالإكثار من الزيارة كما توهمه بعضهم من التعبير في الروايات الأخرى بلفظ " زوارات القبور"
أولا : دعوى النسخ غير صحيحة ؛ لأنها لا تقبل إلا بشرطين :
1- تعذر الجمع بين النصين ، والجمع هنا سهل و ليس بمعتذر لأنه يمكن أن يقال : إن الخطاب في قوله : ( كنت نهيتكم عن زيارة القبور ؛ فزوروها) للرجال ، والعلماء اختلفوا فيما إذا خوطب الرجال بحكم:هل يدخل فيه النساء أو لا ؟ وإذا قلنا بالدخول ـ وهو الصحيح ـ ؛ فإن دخولهن في هذا الخطاب من باب دخول أفراد العام بحكم يخالف العام ، وهنا نقول : قد خص النبي صلى الله عليه وسلم النساء من هذا الحكم ، فأمره بالزيارة للرجل فقط ؛ لأن النساء أخرجن بالتخصيص من هذا العموم بلعن الزائرات ، وأيضا مما يبطل النسخ قوله: ( لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم زائرات القبور والمتخذين عليها المساجد والسرج) ، ومن المعلوم أن قوله: ( والمتخذين عليها المساجد والسرج) لا أحد يدعي أنه منسوخ ، والحديث واحد؛ فادعاء النسخ في جانب منه دون آخر غير مستقيم، وعلى هذا يكون الحديث محكما غير منسوخ .
2- العلم بالتاريخ ، وهنا لم نعلم التاريخ ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقل:كنت لعنت من زار القبور، بل قال : ( كنت نهيتكم ) ، والنهي دون اللعن. وأيضا قوله : ( كنت نهيتكم ) خطاب للرجال ، ولعن زائرات القبور خطاب للنساء؛ فلا يمكن حمل خطاب الرجال على خطاب النساء ، إذا ؛ فالحديث لا يصح فيه دعوى النسخ .
المجيز : لقد نسخت هذه الأحاديث بما في الحديث الصحيح " كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها " بناء على أن الإناث يدخلن في خطاب الذكور .
المانع : أن محل دخولهن فيه حيث لم يوجد دليل صريح قاض بعدم الدخول كوجود أحاديث لعنة زائرات القبور هنا ، فإن ذلك من أظهر القرائن على عدم تناول خطاب الإذن لهن ، كما بينه العلامة ابن القيم في " تهذيب سنن أبي داود " قال : فإن قيل : إن تعليل الإذن في زيارة القبور في بعض روايات حديث الإذن بتذكر الآخرة يؤيد القول بالنسخ ، فإن تذكر الآخرة مصلحة يشترك فيها الرجال والنساء ، نقول إن مصلحة تذكرهن الآخرة عارضها ما يقارن زيارتهن من فتنة الأحياء وإيذاء الأموات والتبرج وغير ذلك عن المفاسد التي
لا سبيل إلى دفعها إلا بمنعهن ، ومبنى الشريعة على تحريم الفعل إذا كانت مفسدته أرجح من مصلحته ، ورجحان هذه المفسدة لا خفاء فيه ، فمنعهن زيارة القبور من محاسن الشريعة .
المجيز : ويشهد لمشروعية زيارة النساء للقبور : زيارة عائشة لقبر أخيها عبدالرحمن بن أبي بكر الصديق.
المانع : عائشة إنما قدمت مكة للحج فمرت على قبر أخيها في طريقها فوقفت عليه ،وهذا لا بأس به ، وإنما الكلام في قصدهن الخروج .
وعلى هذا حمل الإمام ابن القيم في " تهذيب سنن أبي داود" قال ابن القيم بعدما قرر أن هذه الرواية هي المحفوظة : ما رواه الترمذي في سننه عن عبد الله بن أبي مليكة قال : توفي عبد الرحمن بن أبي بكر بالحُبْشِيّ (بضم الحاء وسكون الباء وكسر الشين والتشديد وهو: موضع قريب من مكة ؛وقال الجوهري هو جبل بأسفل مكة ) قال : فحمل إلى مكة فدفن فلما قدمت عائشة أتت قبر عبد الرحمن بن أبي بكر فقالت :
وكنا كندماني جذيمة حقبة من الدهر حتى قيل لن يتصدعا
فلماتفرقنا كأني ومالكا لطول اجتماع لم نبت ليلة معا
ثم قالت : والله لو حضرتك ما دفنت إلا حيث مت ، ولو شهدتك مازرتك . ولو قدر أنها عدلت إليه وقصدت زيارته فهي قد قالت : لو شهدتك لما زرتك . وهذا يدل على أن من المستقر المعلوم عندها أن النساء لا يشرع لهن زيارة القبور .
المجيز : رواية البيهقي من طريق يزيد بن زريع عن بسطام بن مسلم عن أبي التياح أن أثر عائشة المذكور بلفظ : أيا أم المؤمنين من أين أقبلت . قالت : من قبر أخي عبد الرحمن . فقال لها عبد الله بن أبي مليكة : أليس قد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن زيارة القبور . قالت : نعم ، ثم أمر بزيارتها.
المانع : هي رواية بسطام بن مسلم ، ولو صح فهي تأولت ما تأول غيرها من دخول النساء ، و الحجة في قول المعصوم لا في تأويل الراوي ، وتأويله إنما يكون مقبولاً حيث لا يعارضه ما هو أقوى منه ، وهذا قد عارضه أحاديث المنع .
وأما عن حديث المرأة وحديث عائشة ؛ أن المرأة لم تخرج للزيارة قطعا ، لكنها أصيبت ، ومن عظم المصيبة عليها لم تتمالك نفسها لتبقى في بيتها ، ولذلك خرجت وجعلت تبكي عند القبر مما يدل على أن في قلبها شيئا عظيما لم تتحمله حتى ذهبت إلى ابنها وجعلت تبكي عند القبر ، ولهذا أمرها صلى الله عليه وسلم أن تصبر ؛ لأنه علم أنها لم تخرج للزيارة ، بل خرجت لما في قلبها من عدم تحمل هذه الصدمة الكبيرة ؛ فالحديث ليس صريحا بأنها خرجت للزيارة ، وإذا لم يكن صريحا ؛ فلا يمكن أن يعارض الشيء الصريح بشيء غير صريح .
فإن فعلها مع أخيها لم يستدل عليها عبد الله بن أبي مليكة بلعن زائرات القبور، وإنما استدل عليها بالنهي عن زيارة القبور مطلقا؛ لأنه لو استدل عليها بالنهي عن زيارة النساء للقبور أو بلعن زائرات القبور ؛ لكنا ننظر بماذا ستجيبه .فهو استدل عليها بالنهي عن زيارة القبور ، ومعلوم أن النهي عن زيارة القبور كان عاما ، ولهذا أجابته بالنسخ العام ، وقالت : إنه قد أمر بذلك ، ونحن وإن كنا نقول : إن عائشة رضي الله عنها استدلت بلفظ العموم ؛ فهي كغيرها من العلماء لا يعارض بقولها قول الرسول صلى الله عليه وسلم ، على أنه روي عنها ؛ أنها قالت: ( لو شهدتك ما زرتك)، وهذا دليل على أنها رضي الله عنها خرجت لتدعو له ؛ لأنها لم تشهد جنازته ، لكن هذه الرواية طعن فيها بعض العلماء ، وقال : إنها لا تصح عن عائشة رضي الله عنها ، لكننا نبقى على الراوية المانعى الصحيحة ؛ إذ ليس فيها دليل على أن الرسول صلى الله عليه وسلم نسخه، وإذا فهمت هي؛ فلا يعارض بقولها قول الرسول صلى الله عليه وسلم .
المجيز : في قوله : ( زوارات القبور ) ألا يمكن أن يحمل النهي عن تكرار الزيارة لأن ( زوارات )صيغة مبالغة ؟
المانع : هذا ممكن ، لكننا إذا حملناه على ذلك ؛ فإننا أضعنا دلالة المطلق (زائرات). والتضعيف قد يحمل على كثرة الفاعلين لا على كثرة الفعل ؛ فـ (الزوارات) يعني : النساء إذا كن مئة كان فعلهن كثيرا ، والتضعيف باعتبار الفاعل موجود في اللغة العربية ، قال تعالى : (جَنَّاتِ عَدْنٍ مُفَتَّحَةً لَهُمُ الْأَبْوَابُ) (صّ:50) ، فلما كانت الأبواب كثيرة كان فيها
التضعيف ؛ إذ الباب لا يفتح إلا مرة واحدة ، وأيضا قراءة (حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَت)(الزمر: من الآية73)؛ فهي مثلها.
المانع : مال كثير من أهل العلم إلى استمرار النهي عن زيارة القبور في حق النساء.
- فقال الحافظ المنذري في " الترغيب والترهيب" : قد كان النبي صلى الله عليه وسلم نهاهن عن زيارة القبور نهياً عاماً للرجال والنساء ، ثم أذن للرجال في زيارتها ، واستمر النهي في حق النساء
- وقال جامع اختيارات شيخ الإسلام ابن تيمية أبو الحسن البغلي : ظاهر كلام أبي العباس ـ يعني شيخ الإسلام ـ ترجيح التحريم ، لاحتجاجه بلعن النبي صلى الله عليه وسلم زائرات القبور وتصحيحه إياه ، ولا يصح دعوى النسخ ، بل هو ـ أي النهي ـ باق على حكمه ، والمرأة لا تشرع لها زيارة القبور لا الزيارة الشرعية ولا غيرها .
- وقال العلامة السندي في حاشيته على " سنن النسائي" في استمرار النهي عن زيارة القبور في حق النساء : هو الأقرب إلى تخصيصهن بالذكر ـ أي في أحاديث لعنة زائرات القبور .
- وقال صديق حسن خان في " حسن الأسوة " : الراجح نهي النساء عن زيارة القبور ، وإليه ذهب عصابة أهل الحديث كثر الله سوادهم . ا هـ .
- ظاهر رواية الإمام أبي داود عن الإمام أحمد بن حنبل ، قال أبو داود في " مسائل الإمام أحمد " سألت أحمد عن زيارة النساء القبر . قال : لا قلت : فالرجال أيزورون قال : نعم ، ثم ذكر حديث ابن عباس رحمهما الله تعالى " لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم زوارات القبور"
- وبه جزم صاحب المهذب وصاحب البيان من الشافعية . قال النووي في شرح المهذب :" المجموع" : أما النساء فقال المصنف وصاحب البيان من الشافعية لا تجوز لهن الزيارة ، وهو ظاهر هذا الحديث ، يريد حديث لعنة زائرات القبور .
والخلاصة :
أنه لا يجوز للنساء قصد القبور للزيارة ، ولا يدخلن في عموم الإذن ، بل الإذن خاص بالرجال ، لما تقدم والله أعلم.
وأن زيارة القبور بالنسبة للنساء ممنوعة مطلقا وهذا هو الصواب لصحة الأحاديث بمنعهن وعدم الدليل على الاستثناء.
لا يحل للمرأة أن تزور المقبرة هذا إذا خرجت من بيتها لقصد الزيارة .
أما إذا مرت بالمقبرة بدون قصد الزيارة فلا حرج عليها أن تقف وأن تسلم على أهل المقبرة بما علمه النبي ، صلى الله عليه وسلم أمته ، فيفرق بالنسبة للنساء بين من خرجت من بيتها لقصد الزيارة ،ومن مرت بالمقبرة بدون قصد فوقفت وسلمت.