رسالة الذهبي إلی ابن تيمية
الرسالة توجد في السيف الصقيل للسبكي، ونسخة خطية منها محفوظة في دار الكتب المصرية ـ القاهرة ـ تحت رقم /18823 ب، وهي مكتوبة بخط الفقيه ابن قاضي شهبة، نقلا عن خط قاضي القضاة برهان الدين المعروف بابن جماعة، عن خط الحافظ أبي سعيد العلائي المنسوخ عن خط الذهبي نفسه.
وتمام الرسالة هي هذه:
(الحمد لله على ذلتي ، يا رب ارحمني وأقلني عثرتي . واحفظ علي إيماني . واحزناه على قلة حزني ، وا أسفاه على السنة وذهاب أهلها واشوقاه إلى إخوان مؤمنين يعاونونني على البكاء .
واحزناه على فقد أناس كانوا مصابيح العلم وأهل التقوى وكنوز الخيرات . آه على وجود درهم حلال وأخ مؤنس ، طوبى لمن شغله عيبه عن عيوب الناس، وتبا لمن شغله عيوب الناس عن عيبه .
إلى كم ترى القذاة في عين أخيك وتنسى الجذع في عينك ! .
إلى كم تمدح نفسك وشقاشقك وعباراتك وتذم العلماء وتتبع عورات الناس مع علمك بنهي الرسول صلى الله عليه وسلم ( لا تذكروا موتاكم إلا بخير ، فإنهم قد أفضوا إلى ما قدموا ) بلى أعرف أنك تقول لي لتنصر نفسك :
إنما الوقيعة في هؤلاء الذين ما شموا رائحة الإسلام ولا عرفوا ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم وهو جهاد .
بلى والله عرفوا خيرا كثيرا مما إذا عمل به العبد فقد فاز وجهلوا شيئا كثيرا مما لا يعنيهم ، و من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه .
يا رجل! بالله عليك كف عنا فإنك محجاج عليم اللسان لا تقر ولا تنام . إياكم والغلوطات في الدين كره نبيك صلى الله عليه وسلم المسائل وعابها ونهى عن كثرة السؤال وقال :
( إن أخوف ما أخاف على أمتي كل منافق عليم اللسان ) وكثرة الكلام بغير زلل تقسي القلوب إذا كان في الحلال والحرام ، فكيف إذا كان في عبارات اليونسية والفلاسفة وتلك الكفريات التي تعمى القلوب .
والله قد صرنا ضحكة في الوجود فإلى كم تنبش دقائق الكفريات الفلسفية لنرد بعقولنا .
يا رجل! قد بلعت ( سموم ) الفلاسفة وتصنيفاتهم مرات . وكثرة استعمال السموم يدمن عليه الجسم وتكمن والله في البدن واشوقاه إلى مجلس فيه تلاوة بتدبر وخشية بتذكر وصمت بتفكر .
وآها لمجلس يذكر فيه الأبرار فعند ذكر الصالحين تنزل الرحمة . بلى عند ذكر الصالحين يذكرون بالازدراء واللعنة . كان سيف الحجاج ولسان ابن حزم شقيقين فواخيتهما بالله خلونا من ذكر بدعة الخميس وأكل .
الحبوب وجدوا في ذكر بدع كنا نعدها من أساس الضلال قد صارت هي محض السنة وأساس التوحيد ومن لم يعرفها فهو كافر أو حمار ، ومن لم يكفر فهو أكثر من فرعون وتعد النصارى مثلنا ، والله في القلوب شكرك إن سلم لك إيمانك بالشهادتين فأنت سعيد .
يا خيبة من اتبعك فإنه معرض للزندقة والانحلال لا سيما إذا كان قليل العلم والدين باطوليا شهوانيا لكنه ينفعك ويجاهد عندك بيده ولسانه وفي الباطن عدو لك بحاله وقلبه. فهل معظم أتباعك إلا قعيد مربوط خفيف العقل أو عامي كذاب بليد الذهن أو غريب واجم قوي المكر أو ناشف صالح عديم الفهم ، فإن لم تصدقني ففتشهم وزنهم بالعدل ، يا مسلم أقدم حمار شهوتك لمدح نفسك .
إلى كم تصادقها وتعادي الأخيار .
إلى كم تصادقها وتزدري الأبرار .
إلى كم تعظمها وتصغر العباد . إلى متى تخاللها وتمقت الزهاد .
إلى متى تمدح كلامك بكيفية لا تمدح - والله - بها أحاديث الصحيحين .
يا ليت أحاديث الصحيحين تسلم منك بل في كل وقت تغير عليها بالتضعيف والاهدار أو بالتأويل والإنكار ، أما آن لك أن ترعوى ؟
أما حان لك أن تتوب وتنيب ؟
أما أنت في عشر السبعين وقد قرب الرحيل .
بلى - والله - ما أذكر أنك تذكر الموت بل تزدري بمن يذكر الموت فما أظنك تقبل على قولي ولا تصغي إلى وعظي بل لك همة كبيرة في نقض هذه الورقة بمجلدات وتقطع لي أذناب الكلام ولا تزال تنتصر حتى أقول : وألبتة سكت .
فإذا كان هذا حالك عندي وأنا الشفوق المحب الواد فكيف حالك عند أعدائك .
وأعداؤك - والله - فيهم صلحاء وعقلاء وفضلاء كما أن أولياءك فيهم فجرة وكذبة وجهلة وبطلة وعور وبقر .
قد رضيت منك بأن تسبني علانية وتنتفع بمقالتي سرا ( فرحم الله امرءا أهدى إلي عيوبي ) فإني كثير العيوب غزير الذنوب .
الويل لي إن أنا لا أتوب ، ووافضيحتي من علام الغيوب ودوائي عفو الله ومسامحته وتوفيقه وهدايته والحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيدنا محمد خاتم النبيين وعلى آله وصحبه أجمعين )
الذهبي رحمه وصف ابن تيمية رحمه الله وصفا موضوعيا غير مبالغ فيه، فإنه كان -كما قلنا - من معاصريه ومن تلاميذته، فكان عارفا له مطلعا علی أحواله.
منقول.......